جعفر النميري.. فرعون السودان وساقيها

27 مايو, 2021 - 08:59

بورتريه

قالت له أمه ذات يوم "جعفر يا ولدي، لقد آتاك الله قوة في جسمك، وعسى أن يؤتيك الله مُلكا وحلما كبيرا".

كان شابا مفتول العضلات ذائع الصيت في المجال الرياضي، تُشكل كرة القدم والرياضات بشكل عام كل همه، حيث يمارس كل أنماطها، وكان البريطانيون يحبونه لكونه شخصا رياضيا، وحين شارك في البكالوريا لم يكن مستواه عاليا بما يكفي، إلا أنه كان كافيا للالتحاق بالكلية الحربية، فجسمه الرياضي كان يؤهله للانخراط في صفوفها.

الإرهاصات الأولى

بدأ جعفر النميري حياته العسكرية ضابطا شجاعا منجزا لأعماله منضبطا لا يعاب عليه شيء في سلوكه داخل القوات المسلحة، حتى كان مثالا للعسكري المتميز، فإضافة إلى سلوكه وانضباطه كان مميزا في الرياضة، مما أعانه على احتلال مكانة داخل الجيش لا ينافسه فيها أحد.

وكلما انضم النميري إلى وحدة من وحدات الجيش حاز السبق في مضمار العمل الجسماني والكفاءة في الأداء، حتى ذاع صيته في الآفاق، فكانت معاركه التي يخوضها أحاديث للناس تحملها وسائل النقل إلى أقاصي السودان بمجرد وقوع المعركة، فاكتسب بذلك شعبية كبيرة مستندة على تميزه في القوات المسلحة.

استغلال الحرية

شهدت الفترات السياسية كلها منذ الحكومة الانتقالية التي ترأسها إسماعيل الأزهري عام 1954 مرورا بالاستقلال عام 1956 الكثير من التداول للسلطة، فقد كانت فترة ملبدة بغيوم الديمقراطية وأنوائها المتقلبة، رغم بعض العواصف العسكرية.

كان كلٌّ يمارس الديمقراطية كاملة الدسم في السودان، بصورة لا تلوح آفاقها في المنطقة العربية كلها، فتلك الديمقراطية هي ما أتاح الحرية لكل الأحزاب العقائدية، حتى تلك الوافدة من دول الجوار المقموعة فيها، فقد وجدت حرية كاملة في السودان، إلا أنها استغلت الحرية للإطاحة بالحرية.

من فعلها؟

رغم اللغط الذي دار حول انقلاب 25 مايو/أيار 1969 ومن قام بتدبيره، فإن الحزب الشيوعي السوداني لم يكن هو من قام بالانقلاب لا تخطيطا ولا تنفيذا، إلا أن الظروف التي أحاطت به جعلت أصابع الاتهام تشير إليه، خاصة بعد طرد نواب الحزب الشيوعي من الجمعية التأسيسية آنذاك.

لكنهم دون شك -حسبما قال محمد شريف التهامي وزير الطاقة في عصر النميري- "كانوا من العناصر التي شاركت في تهيئة الأجواء لحدوث تغيير عسكري، فموضة الانقلابات العسكرية بدأت تروج في المنطقة، لذلك لم يكن من المستغرب أن يقع الانقلاب".

كان تنظيم "الضباط الأحرار" الذي قام بتنفيذ الانقلاب يضم تشكيلة من الضباط ذوي المشارب السياسية والفكرية المختلفة، رغم غلبة الطابع اليساري على التنظيم، فقد كان هنالك شيوعيون وناصريون وقوميون عرب.

أما العقيد أركان حرب جعفر النميري قائد التنظيم فلم يكن شيوعيا بالأساس ولا عضوا منتسبا للحزب الشيوعي، وربما لم يكن متأثرا بهذا ولا ذاك -حسب بعض المقربين منه- بل بالقيادة فحسب، فكانت كل همه، إلا أنه كان في ذلك الوقت أسيرا لعدد من الضباط ذوي الميول الشيوعية، وآخرين من ذوي الميول القومية في مذهبها الناصري.

البيان الأول

كان البيان الأول لانقلاب النميري ينطوي على التبني الكامل لشعارات الحزب الشيوعي السوداني، حيث أعلن عن السودان كجمهورية شعبية ديمقراطية، فعندما حدث هذا مباشرة أرسل مجلس قيادة الثورة في المدائن حاشرين محذرين ومعلنين عن قيامهم بهذه الثورة، وبأن القيام بأي معارضة سيواجه بموقف حازم.

وكانت تلك الشعارات وانعكاساتها التحذيرية على أرض الواقع تجسيدا حيا للبيان الأول التي تلاه العقيد أركان حرب جعفر النميري، وقد قال في البيان "إن بلادنا الحبيبة لم تنعم باستقرار في الحكم منذ إعلان استقلالها في عام 1956، وكان تاريخها طيلة تلك المدة سلسلة من المآسي تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر المغرضون من الأحزاب المختلفة على مقدراتنا، وتحول الاستقلال على أيدي الحكومات المتعاقبة إلى مسخ قبيح خلا من كل محتوى ومضمون، وفتحت أبواب البلاد للنفوذ الأجنبي، وتسللت قوى التخلف والرجعية إلى بلادنا، وأحزابنا السياسية تدور أبدا في فلك الاستعمار".

وفي أول مقابلة تلفزيونية أجريت معه بعد الانقلاب بأربعة أيام أوضح النميري الدوافع التي أدت إلى قيام الانقلاب، وقال إن الثورة هي ثورة وطنية وليست شيوعية، وأنها تقف بالمرصاد للرجعية التي تقف عائقا أمام تقدم السودان، ففي فقرة من حواره المصور قال النميري "كل من جاء بفكرة جديدة كان يدمغ بأنه إما شيوعي أو أنه ينتمي إلى الدول الغربية الاستعمارية، أو ما شاكل ذلك من الألفاظ التي لا تشجع الفرد على العمل لتطوير السودان، هذه هي الرجعية التي نرصدها".

وبُعيد الانقلاب اجتمعت اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي السوداني وناقشت الوضع معتبرة أنها أصبحت أمام الأمر الواقع، وأعلنت تأييد الانقلاب.

صراع شيوعي إسلامي

كان الصراع بين الشيوعيين والإسلاميين من جماعة أنصار الإمام محمد أحمد المهدي وجماعة الإخوان المسلمين هو الصراع الأساسي، حيث كانت كل السياسات التي شرع فيها النظام جاءت بدفع من الشيوعيين، فقد تم القبض على قيادات الإسلاميين فور قيام الانقلاب، قبل أن يتم القبض على قيادات النظام المنقلب عليه.

وكان النظام ينظر إلى وجود جماعة الأنصار في الجزيرة آبا على أنه وجود لأعداء له يتمركزون هناك، وبأنهم يشكلون نقطة تجمع لكل المعارضين له، وبالفعل فقد كان تجمع كبير من معارضي النظام بمن فيهم الإخوان المسلمون يتكتلون هناك في الجزيرة، وقد اتفق جماعة الأنصار والإخوان على فتح الحوار مع قادة الانقلاب بغية تجنيب البلاد كل احتمالات الصدام.

حينها أرسل الإمام الهادي رئيس جماعة الأنصار إلى قادة الانقلاب الصادق المهدي رسولا لإبلاغهم بموقف الجماعة، ويفاوضهم حول مطالب الجماعة ومطالب الشعب السوداني كله، إلا أن القوم أرسلوا الرسول إلى السجن بمجرد إبلاغهم بالأمر، ثم أرسلوا قوات عسكرية في طلب الإمام الهادي لاعتقاله.

الصلح خير

"لقد خُيّرت بين أمرين، أن أضرب الجزيرة، أو أن أستقيل"، هكذا قال جعفر النميري حين واجه مشكلة الجزيرة، وقد اختار أن يضربها، فأرسل الجيش إليها لاعتقال الإمام الهادي، إلا أنه وقع في كمين نصبه الأنصار فحوصرت دباباته وعرباته وحاملات جنوده في الماء، فقال العقيد أحمد أبو الذهب "نحن جئنا كضباط أحرار لكي نتفاوض مع الإمام الهادي".

اتفق الإمام الهادي مع الضباط الأحرار على بنود ستة، منها رجوع الجيش إلى ثكناته، وفك أسر المعتقلين السياسيين، وإقامة فترة انتقالية يتم بعدها الاتفاق على كيفية حكم السودان، ووقع عليها مع القسم العقيد أبو الذهب.

المعركة الكبرى

يرى اللواء الطيار محمد الفاتح عبدون رئيس أركان القوات المسلحة السودانية حينها أن النميري وقع ضحية صنيعة وتدبير يساري أقنعه بضرورة الحرب، حيث يقول "حين عاد المفاوضون من الجزيرة أبا أبلغوا عن وجود الكثير من الأسلحة داخل الجزيرة، فأعتقد أن هذا العمل كان من تدبير اليساريين الذين أقنعوا النميري بأن الأمر خطير، وبذلك وافق على ضربها"، فبدأت الطائرات عندئذ ببث منشورات تدعو المواطنين إلى التسليم، ثم ما فتئ الأمر حتى التهب وبدأ القصف.

أحس النميري بالفزع وعدم الشرعية في صراعه مع الجزيرة، وأراد البحث عن حلفاء يساندونه في معركته، فلم يجد خيرا من الرئيس المصري جمال عبد الناصر والزعيم الليبي معمر القذافي، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كل هذا، فحصار الجزيرة وحده كان كافيا لتحصيل النتائج، إلا أنهم أرادوا البطش والتنكيل من أجل إعطاء درس قوي للمعارضة.

كان النميري يواجه مشكلة داخل الجيش السوداني، تمثلت في عجزه عن خوض المعركة الكبرى مواجهة، وذلك لكون الكثير من جنوده ينتمون إلى مناطق قريبة الولاء من جماعة الأنصار، لذا فقد آثر خوض العملية جويا مستعينا بالقوات المسلحة المصرية التي قامت بالعمليات الجوية، كما كانت هناك مساندة ليبية رهن الإشارة.

يوم احتشدت القوات السودانية من أجل اقتحام الجزيرة انعقد اجتماع في منزل الإمام الهادي فقال "هؤلاء القوم يطلبونني أنا، وأنا مسؤول عن أرواحكم وأرواح الجنود، فإذا بقيت في حمايتكم ودخل الجيش فستكون إبادة، ومن مات منكم أو منهم فأنا المسؤول عنه، لذلك تفاديا لسفك الدماء سأهاجر من الجزيرة أبا، وعليكم أن تسلموا الجزيرة غدا صباحا".

حين رأى الجيش الرايات البيضاء مرفوعة أوقف القصف ودخل الجزيرة فجُمع الناس ذوو الاعتبار والشخصيات البارزة وأولو العلم، وفُتشت البيوت، واستمر وجودهم في الجزيرة الأربعاء والخميس، ثم رحلوا من الجزيرة، وبعدها أصدر النميري بيانا بتحريم دخول آل المهدي قادة الجماعة إلى الجزيرة.

ومما يبدو فإن الأمر كان مقررا منذ بداية الثورة، فحين سأل النميري أحد وزرائه: كيف قررت أن تقتحم الجزيرة وتقتل هذا العدد من الأنصار بمن فيهم إمام الأنصار الإمام الهادي؟ رد قائلا "إنك الآن تكلمني بعد أن أصبحت رئيس الجمهورية والرجل الآمر الناهي فيها، لكن عندما قام الانقلاب عام 1969 فقد كنتَ مجرد عضو في المجلس العسكري، والمجلس العسكري هو من قرر مواجهة الجزيرة وإزاحة التمرد".

هجرة الأنصار وقدوم النميري

حين جرى ما جرى وهدأت العاصفة هاجر الكثير من جماعة الأنصار من جزيرة أبا، مفارقين السودان إلى أثيوبيا، وهناك في أثيوبيا تنامت عزيمة قوية لديهم بالعودة من أجل الانتقام لاحقا.

وفي عام 1971 زار النميري الجزيرة أبا رغم تحذيرات البعض له من زيارتها لكونها معقل جماعة الأنصار الذين لم تجف دماؤهم بعد، لكنه أتى فاستُقبل استقبالا حافلا، وطاف في أنحاء الجزيرة، ووعد بتقديم الخدمات العاجلة، وحين اجتمع بسكانها قال له أحد السكان "يا نميري لا تخف منا نحن، بل من البطانة التي معك، وكان من الصدفة أن كان خلفه هاشم العطا".

البطانة

في السنتين الأوليين من حكم النميري كانت تربط بينه علاقة تحالف مع الحزب الشيوعي السوداني منذ أعلن دعمه للانقلاب، لكنها لم تكن صافية السماء دائما، حيث يقول الشفيع خضر سعيد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي "إن علاقة التحالف تلك كان يشوبها العديد من نقاط التوتر، خاصة عندما كان يصر الحزب على انتقاد مواقف بعينها من المواقف التي اتخذها مجلس قيادة الثورة"، وتحت غطاء تلك الخلافات قام النميري ورفاقه بفصل بعض الضباط الشيوعيين من عضوية مجلس قيادة الثورة، ومنهم هاشم العطا وبابكر النور وفاروق عثمان حمد الله.

كانت هناك خلافات وأحاديث ولغط داخل القوات المسلحة نفسها، وملخص الخلاف أن النميري كان يريد أن يصنع من نفسه طاغية دكتاتورا مستأثرا بالسلطة لنفسه، ويُخلف بما كان قد اتُّفِق عليه من الأهداف قبل الثورة، لذلك فإن مجموعة من ضباط القوات المسلحة ومنهم شيوعيون وغير شيوعيين اتفقوا على القيام بحركة تصحيحية، ونفذت انقلاب 19 يوليو/تموز 1971، لكنه فشل بعد عدة أيام.

وكان من أسباب فشل الانقلاب أو الأخطاء التي أدت إلى فشله أنهم رفعوا الشعارات الحمراء بطريقة مستفزة للكثيرين، إضافة إلى كونهم لم يتخلصوا من رأس النظام جعفر النميري، بل احتجزوه باحترام كرئيس دولة، مما أتاح له أن يتسور الحائط ويفر هاربا، ليلتف حوله الجيش ويقلب على المنقلبين الطاولة.

تصفية الحزب الشيوعي

"بلادي الحبيبة العزيزة التي صارت هدفا لحزب شيوعي صغير.." تلك فاتحة خطاب الرئيس النميري بعد إفشاله انقلاب الشيوعيين، وتلك براعة استهلال تنبئ بما يختبئ خلفها من وبال قد أزفت آزفته.

أول ما شرع فيه الرئيس بعد إفشاله الانقلاب والعودة إلى الحكم هو بدء تصفية الحزب الشيوعي السوداني، فلقد أعمل النميري آلة القتل في الملأ، فقام بإطلاق الرصاص على العسكريين منهم، بينما أدخل الآخرين السجن وأعدموا شنقا، وذلك بعد محاكمات صورية لم تستغرق بضع دقائق.

ولم تزل سيوف القتل تضرب في أعناق الشيوعيين حتى سالت الخرطوم حمام دماء، ثم بدأ السجن والتنكيل وفصل الآلاف من وظائفهم من منتسبي الحزب الشيوعي، بل طال ذلك آخرين من خارج دائرة الحزب من الأصدقاء والمقربين.

ما بعد الشيوعيين

أصبح النميري بعد تصفية الحزب الشيوعي مستعدا للتعامل مع جميع الأطياف السياسية، باستثناء جماعة الأنصار وجماعة الإخوان المسلمين، فكان في قطيعة تامة مع هذه الأحزاب الثلاثة.

وفي عام 1978 أسس الاتحاد الاشتراكي نتيجة لمؤتمر المثقفين الذي تم تنظيمه ذلك العام، وكان تنظيما موحدا قائما على أساس فكرة الحزب الواحد، وكان هذا التحالف يتكون من خمس فئات هي، المزارعون والعمال والقوات النظامية والمثقفون والرأسمالية الوطنية.

كان القائمون على الاتحاد يرون أن التعددية السياسية ممثلة في الأحزاب لا تبني السودان، وإنما يُبنى بالوحدة الوطنية، وبالتالي فإن مفهوم الحزب الواحد كان نابعا من هذا الإطار.

 

الأرضية الباردة

لقيت تصفية الشيوعيين ترحيبا كبيرا في الدوائر الغربية نتيجة عدائها مع الفكر الأحمر، مما جعلهم ينظرون إلى النميري نظرة عطف.

يقول الصادق المهدي "كان البطش والتنكيل بالشيوعيين في أوج الحرب الباردة أمرا باردا في نفوس الدول الغربية، ولذلك فقد أزهر الأمر محبة وعطفا للنميري، وقد انعكس ذلك إيجابا في تبني الحرب الأهلية في الجنوب، وتبني وساطات للسلام قام فيها بصورة مباشرة الإمبراطور هيلا سلاسي عظيم أثيوبيا ومجلس الكنائس العالمي بإحداث أول اتفاقية سلام، وتم توقيعها في أديس أبابا عام 1972، ذلك ما خلق له أرضية سلام في الجنوب السوداني الملتهب، فتكررت زياراته إليه حيث كان يسهر مع الجنوبيين ويحتفل معهم تجسيدا للعلاقات الوطيدة التي جمعته بهم".

لم يكن الأمر خاصا بالجنوبيين، بل عاما في السودان كله، إلى أن طاف جميع أنحاء السودان في تلك الفترة، والتقى بالكثير من المتصوفة في جميع بقاع الدولة حتى إنه تم استقباله في ولاية كسلا بالشرق استقبالا صوفيا تجلى في أحد كبار شيوخ المنطقة وهو الشيخ علي بيتاي في إحدى خلاويه الصوفية، وحين سُئل: كيف تستقبل هذا الرجل الشيوعي وأنت رجل دعوة؟ فقال "إنه سوداني، ونحن الشعب، وإنا عارضون عليه فكرتنا وغايتنا، فإن سلك مسلكنا طلبنا منه العون في مساعينا وأهدافنا وغاياتنا".

وقد تأثر كثيرا من قراءة أحد الأطفال الحفاظ لآيات قرآنية فعقب عليها قائلا "إنني أؤيد الدين، وأحكم بالشريعة، وأعاهدكم على أن أكون سندا لكم؛ ثم أخذ الطفل معه، فكان يدعوه كل ليلة يعلمه من القرآن آيات قرآنية حتى يحفظها".

النميري المتصوف

تغيرت شخصية الرئيس جعفر النميري بعد عام 1973 تغيرا ملحوظا، فقد كان مقربا من الصوفيين وطيد العلاقة بهم، حتى إنه كان يذهب إلى حرم صوفي حين يرغب بإصدار بعض القرارات المهمة، فيحضر التلفزيون والمسؤولون والوزراء، ويقرأ القانون أو المرسوم الدستوري هنالك في الحرم الصوفي؛ وكان رجال الصوفية مقربين منه جدا يبادلونه الود، والصوفية خير دثار الحاكم إن أراد دثارا، فهم لا يحاربون الحكام أبدا.

انتفاضة يوليو

بدأ الشريف الحسين يوسف الهندي بالدعوة إلى تجمهر جماعة الأنصار، مروجا إلى دعاية أن الإمام الهادي لعله يكون حيا في مكان ما، داعيا إياهم للتجنيد والتسلح من أجل نصرته، فبدؤوا التجمهر من أجل الجهاد ضد الرئيس جعفر النميري رغم علمهم بحقيقة مقتل الإمام، لكنهم أرادوا ضرب هذا النظام الذي بدا شيوعيا متطرفا.

فذهبت الجماعة إلى ليبيا حيث خيام القذافي الذي استقبلهم واستقبل كل المجندين في الجبهة الوطنية، ومنهم أنصار قدموا من أثيوبيا، ومنهم طلاب من الإخوان قادمون من المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر.

وعلى الرغم من تساؤل البعض عن سبب محاربة النميري والاستمرار في عدائه هذه المرة وقد عدل عن نهجه الشيوعي، فقد كانت أسباب أخرى تحرك هذه الانتفاضة ومنها الاستمرار في الدكتاتورية والاستبداد بالحكم مع عزل الآخرين، والرد على ما حدث في الجزيرة آبا.

لكن النميري غلب القوم إعلاميا باستخدامه بعض المصطلحات مثل "المرتزقة" و"فلول الرجعية"، حتى انقلب الرأي العام على أصحاب الانتفاضة، وحين فشلت الانتفاضة أو المحاولة الانقلابية غضب القذافي على القادة وأخرجهم من ليبيا، فتوجهوا إلى بريطانيا.

يقول حسن الترابي زعيم جماعة الإخوان المسلمين آنذاك "كنا في السجن، وكان كثير من عساكر السجن ذوي ميول أنصاري، فأتونا وقالوا لنا قضينا على الضباط وانتهينا منهم، ومن بعد حين إن شاء الله تخرجون، وقد كنا ننتظر ذلك، ولكن بعد قليل بدأت المدافع تصلنا إلى السجن، حتى أخذونا إلى موقع بعيد أكثر أمنا، وفشلت المعركة".

العزلة تلد الانفتاح

شعر الرئيس النميري في عز حكمه بالعزلة بعد انتفاضة يوليو/تموز وانكسار قوات الجبهة الوطنية، فقد أصبح في عداء مع الجميع منذ استوى على عرش السلطة، فأما الشيوعيون فقد أبادهم وهم من أوصلوه إلى الحكم، وأما الأنصار فقد قتل إمامهم وبطش بهم، ثم بطش بهم البطشة الثانية بعد الانتفاضة، وأما الإخوان فهم على تلك الشاكلة، حتى أصبح يجلس القرفصاء في سودان لا يشعر فيه بالتودد مع أحد، فتلك هي الدواعي التي دعته في نهاية المطاف إلى أن يصبح منفتحا، ويبدأ مسار المصالحة من أجل إصلاح ما أفسد من أمره.

قدم الصادق المهدي زعيم جماعة الأنصار من بريطانيا إلى بورتسودان، فكان في استقباله له ودودا مرحبا، وقال له "إنني مستعد للاتفاق على طريقة حكم السودان، وإذا كنتم مستعدين لذلك فأنا مستعد للمضي قدما في هذا الأمر، ولهذا تم الاتفاق على المصالحة الوطنية".

المصالحة الوطنية

حين دعا النميري إلى المصالحة بدأ القوم يفكرون في أن يصالحوه، لكن النظام اشترط عليهم أن لا ينخرطوا في المصالحة باسمهم، بل ينضموا إلى الاتحاد الاشتراكي، وكان حسن الترابي زعيم جماعة الإخوان معارضا للأمر، فقال "إن الإسلام بذاته أمَر أن نشترك في العلم ونشترك في المال ونشترك في السلطان، وأنا رجل إسلامي إذا تحدثت فلا أتحدث إلا إسلاميا"، فقال له النميري "طبعا لك أن تتكلم كما تشاء، ولكن ادخل في الاتحاد الاشتراكي".

وفعلا فقد انضم الصادق المهدي زعيم جماعة الأنصار وحسن الترابي زعيم جماعة الإخوان إلى المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، وأديا القسم، وقاما بفك الجبهة الوطنية، إلا أن آخرين داخل الاتحاد الاشتراكي لم يروا الأمر بمنظار هؤلاء.

تقول نفيسة أحمد الأمين القيادية في تنظيم الاتحاد الاشتراكي "إن الموجودين في مايو قبل المصالحة بعضهم أصابه شيء من التوجس والخوف من أن يكون هؤلاء القوم الذين صالحوا ربما صالحوا من أجل تحقيق مكاسب لأحزابهم".

القيادة الرشيدة

بدأ النميري -بحكم توجهاته الجديدة بعد المصالحة- في تغيير ملامح الحكم، والتوجه إلى نظام القيادة الرشيد الذي يُعلي أمر الشريعة، فمنعت الخمور والدعارة والكثير من الأمور المخالفة للشريعة، ثم أعلن عن نظام الحكم الإسلامي الرشيد، لكنه عِيبَ عليه في ذلك وأخذت عليه الكثير من المآخذ فيه، حيث رأى البعض أنه لا يعلم ما كان بصدده، وإنما أراد استغلاله سياسيا.

يقول الصادق المهدي "إن النميري لم يكن يعي ما يعنيه رفع الشعار الإسلامي، تماما مثلما لم يكن يعي حين رفع شعارات الشيوعية هل الشيوعية ذكر أم أنثى، لذلك فقد أخفق في الأمر إخفاقا شديدا، وطبق الحدود في عام مجاعة على الجياع، رغم أن المجاعة تعطل الحدود في الشريعة الإسلامية، ووضع قوانين جنائية طرحت بطريقة سطحية ومعيبة جدا، والأمر برمته لا يعدو كونه حركة انتهازية".

على الجانب الآخر من الكرة الأرضية استشاط الأمريكيون غضبا من أمر إعلاء الشريعة الإسلامية، واستدعوا مسؤولين سودانيين في اجتماعات مطولة حول الأمر لم تصل إلى نتيجة، فجاءت العقوبات متمثلة في وقف التنقيب عن البترول في السودان، رغم أنه كان قد بدأ العمل فيه ورصد له التمويل الكافي من أجل إنجازه، ليتم توقيفه بجرة قلم أمريكي.

ولم يتوقف الأمر عند الأمريكيين بل جاوزهم إلى العرب والمسلمين، حيث أوقفت بعض الدول منحها ومعوناتها الاقتصادية للسودان انعكاسا للقرار الأمريكي، فقرر النميري أن يقوم بإحياء شعيرة الزكاة بقوة السلطان من أجل تحرير اقتصاد السودان من الديون الربوية.

إعدام محمود محمد طه

في أوج فترة تطبيق الشريعة الإسلامية عبر القيادة الرشيدة حكمت محكمة سودانية على زعيم الحزب الجمهوري محمود محمد طه بالإعدام حدا بتهمة الردة بعد اعتراضه على قوانين الشريعة التي أعلنها النميري عام 1983 ووصفها بأنها مشوهة للإسلام.

وبالرغم من محاولات الكثيرين فإن كل وساطاتهم باءت بالفشل، فقد كان النميري مصرا على تطبيق حكم الشريعة، وإنفاذ أمر القضاء قاطعا الطريق على كل محاولات التدخل في حكم القاضي، ولقد حاول إيجاد حل للأمر عبر الاتصال بالأزهر الشريف وغيره من أجل استفتائهم حول الحكم، إلا أنه لم يجد مناصا من الإعدام كما ذكر في بيان له بمناسبة الإعدام.

ولقد كان لتطبيق ذلك الإعدام يوم 18 يناير/كانون الثاني 1985 صدى كبير في الدوائر الغربية، حيث كان من أسباب التوتر مع الأمريكيين، إضافة إلى رفع شعارات الشريعة الإسلامية.

يقول الشفيع خضر سعيد عضو المكتب السياسي الشيوعي "الهوس الديني سيطر على السلطة تماما، فتم إعدام محمود محمد طه في محاكمة هي فعلا مهزلة العصر".

الفلاشة

كان الفلاشة مجموعة من اللاجئين دخلوا أرض السودان في فترة من الفترات، ثم تم تهريبهم بالطيران إلى إسرائيل في منطقة حدودية، وقد أبلغت القوات المسلحة الرئيس النميري إلا أنها لم تشارك في الأمر، بل تم تكليف أجهزة أخرى بالتحقيق في الأمر ومتابعة القضية.

وقد سبب الأمر ضجة كبرى يرى البعض أنها كانت أكبر من حجم القضية بسبب التضخيم، وأن النميري لم يكن متورطا في القضية، وإنما تم إلهاب مشاعر الناس عن طريق الشعارات المستفزة للمشاعر كالعمالة لإسرائيل، إلا أن البعض الآخر يرى أنه كان بتآمر منه مع إسرائيل والولايات المتحدة، حيث يؤكد الصادق المهدي رئيس جماعة الأنصار أنه كان ضالعا في الأمر.

ذبول النميري

قضية الفلاشة بالإضافة إلى التردي الاقتصادي الفظيع في البلد، والمجاعة التي حاقت به، ثم تنامي وتيرة الحرب في الجنوب خاصة بعد انهيار اتفاقية أديس أبابا، ثم اندلاع الحرب الأهلية مرة أخرى، كلها مجتمعة كانت عوامل ساهمت في الإطاحة بنظام الرئيس جعفر النميري.

بدأت انتفاضة أبريل/نيسان متمثلة في مظاهرات شعبية ضخمة، فواجهتها الحكومة حينئذ بمسيرة مضادة، لكنها لم تكن منظمة على مستوى مظاهرة المعارضة، بل كانت مظاهرة عبثية هزيلة، فبدأ النظام يتآكل داخليا، وبدأت أركانه تشعر بالسقوط، حيث قامت وزارة الثقافة بسحب أناشيد ثورة مايو/أيار 1969 واستبدالها بأناشيد وطنية في قراءة للموقف تطلبت ذلك الإجراء، وأصبح الجميع يفكر فيما بعد النميري، الرجل الغائب البعيد الذي عرف بالأمر أثناء زيارته إلى أمريكا.

 

سقوط النسر

في السادس من أبريل/نيسان 1985 خرج على الناس وزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة الفريق عبد الرحمن حسن سوار الذهب معلنا إسقاط نظام الرئيس جعفر النميري في حركة تصحيحية باعتبار أنه لم تعد لثورة مايو قاعدة شعبية تساندها، وإنشاء مجلس عسكري انتقالي لقيادة البلاد في الفترة الانتقالية، وقد سارعت القيادة العامة إلى تنفيذ الانقلاب خشية أن يقوم بذلك ضابط صغير في الجيش إرضاء للجماهير المتعطشة للتغيير، فتقع الفوضى.

يقول سوار الذهب "ما قمنا به ليس انقلابا على الرئيس النميري، وإنما هو قراءة سليمة لواقع الأمر في السودان، باعتبار أنه لم تعد لثورة مايو أية جماهير تساندها شعبيا".

سقط نظام ثورة مايو واعتقل سدنته وتم التحفظ عليهم فور وقوع الانقلاب وتأمين منزل النميري خشية الاعتداء عليه، ثم أطلق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، بينما توجه النميري إلى مصر حين علم بالأمر وهو في طريقه عائدا من الولايات المتحدة.

استقبل النميري سفيرُ بلاده مع الرئيس المصري حسني مبارك الذي كان -رغم مساندته للحركة التصحيحية- حريصا على عودة النميري إلى السودان عبر سفيره في الخرطوم، وبرقياته التي يرسلها إلى المجلس العسكري، حيث جاء في إحداها أنه يجب أن يعود النميري من أجل تسوية الأمور وإضفاء الشرعية والقبول على ما حصل، وقد رد عليه المجلس العسكري بأنهم يضمنون سلامته إذا عاد إلى السودان، ولكنهم يفضلون بقاءه في مصر.

حين سقط النظام كانت البهجة والحرية تعمّان الأجواء، فكان الناس يزيلون آثار النظام القديم وكل ما له علاقة بثورة مايو، فأزالوا اسم الرئيس عن الإنجازات والمصانع والمؤسسات التعليمية التي قام بافتتاحها. وعلى العموم فإنه بالرغم من السلبيات الكثيرة في نظام مايو، فلقد أجمع الكل على أن له إنجازات محببة ومقدرة من طرف الجميع.

بين القهر والإنجازات

إن الستة عشر عاما التي قضاها النميري في سدة الحكم كان في كل عام منها الكثير من الإنجازات والخيرات والمشاريع التنموية، والكثير من النواقص التي نغصت رغد الإنجازات، ولعل منها أن جميع تلك الإنجازات كانت بديون لا بفوائض.

يقول الصادق المهدي "فذلك الأمر الذي جعل السودان إلى يومنا هذا قابعا تحت وطأة الدين الخارجي لنظام مايو، حيث ورَّثوا الأنظمة من بعدهم 30 مليار دولار من الدين".

كان أول مشروع أنجزه النميري مشروعا إنسانيا نهضويا كبيرا، ألا وهو محاربة العطش، في بلد له نيل أبيض وآخر أزرق وروافد أخرى ومياه جوفية، ومع كل هذا كان يشكو من العطش في فترات من تاريخ السودان، فكانت قضية محاربة العطش من القضايا الضخمة التي قام بها.

كما أن كل الطرق العابرة الكبرى التي توجد في السودان هي من حسناته، وكذلك الصناعات الكبرى حيث اهتم بصناعة السكر والزراعة والتصنيع الزراعي وتوطين القمح والسكر وبعض الزراعات الأخرى، بالإضافة إلى جلب الكثير من الاستثمارات والتمويلات الأجنبية والعربية.

ومما يذكر له احتفاؤه بالمفكرين والمخططين، وإقامة مؤتمر أركويت السنوي من أجل التخطيط والعمل، وكان أول من أنشأ وزارة للتخطيط.

وفي الجانب الثقافي أنشأ فرقة الأكروبات الاستعراضية التي كانت من أعظم الإنجازات الثقافية التي شهدها المسرح السوداني، والتي أصبحت فيما بعد فرقة دولية تشارك في المهرجانات والفعاليات الدولية، إضافة إلى الكثير من الفنون التشكيلية والإذاعية والتلفزيونية والأوركسترا والشعر والإبداع والكتابة، فجميع هذه القطاعات تنامت وكانت لها حركة كبيرة في عهد النميري.

رغم كل تلك الإنجازات فلقد قدم النميري حسب البعض أسوأ نموذج للقيادة في العالم العربي والأفريقي، فقد نكب السودان نكبات كبيرة في الحرية وكرامة الإنسان.

نهاية طاغية

وفي يوم 30 مايو/أيار 2009 توفي زعيم نظام مايو الرجل البسيط والطاغية ذو الأخطاء، الذي ارتكب جرائم بحق الشعب السوداني، ذو الإنجازات التنموية الكبرى الذي كان مستبدا كأي شخص حكم حكما مطلقا.

يقول عنه حسن الترابي الذي حبسه مدة سبع سنوات من حكمه "غالب الجبابرة فُسَّاد يأكلون المال كله، ويأكلون السلطان كله، ويريدون كل شيء وحدهم، إلا أنه هو لم يكن كذلك".

 المصدر الجزيرة نت + الجزيرة الوثائقية