في مثل هذه الأيام تمر علينا الذكرى العطرة لاستشهاد القائد "نضال فتحي فرحات"، لنستلهم منها معاني العزة والكرامة ونستقي منها قصص الشجاعة والإصرار، فهو مجاهدٌ عنيد ومقاتلٌ صنديد، عقليةٌ فذة وإرادةٌ صُلبة، هو نموذجٌ فريدٌ من نوعه، يعطي للأمة المجاهدة وفصائلها المقاتلة درساً لا كالدروس؛ في معاني الثبات والتحدي وقهر المستحيل، والانتصار على المعوّقات وهزيمة الحصار، فصاحب الحق لا يعرف معنًى لليأس، والمجاهد لا يقف عند حدود الامكانيات، والثائر الذي يحمل همّ شعبه وأمته لن يثنيه خذلان الحلفاء أو الأصدقاء، ولا تكالب الخصوم والأعداء عن مواصلة طريقه المقدّس وسعيه المبارك نحو النصر والتمكين، وتحرير الشعب من ربقة المحتلين وعتقه من أغلال المُحاصِرين.
هذا المجاهد البطل هو سليل العائلة الطيبة المجاهدة "عائلة فرحات"، وُلد في الثامن من أبريل من عام 1971م، ونشأ في بيتٍ مشهودٍ له بالإيمان والتقوى وحب الجهاد وعشق المقاومة، وترعرع في بيوت الله ودروس العلم وحلقات الذِّكر، وصُقلت شخصيته الفريدة من خلال معايشته للقادة والمجاهدين؛ وقربه من المقاومين والمطاردين، وعلى رأسهم القائد القسامي "عماد عقل" الذي أذاق الاحتلال الصهيوني وقادة جيشه الويلات، فأرّق نومهم وأفسد عليهم عيشهم، حتى احتضنته "عائلة فرحات" وأخْفَته عن عيون المخابرات الصهيونية وعملائهم؛ ليرتقي شهيداً في بيتهم - بعد حياةٍ جهادية حافلة- باشتباكٍ مسلحٍ مع قوة صهيونية كبيرة عام 1993م.
والدته هي مريم فرحات "أم نضال"، مجاهدة صابرة امتلكت إرادةً صلبة وعزيمةً وثّابة، يُطلق عليها الفلسطينيين لقب "خنساء فلسطين"، تحدّت كيان الاحتلال وقهرت قادته، وحرّضت الشباب على الجهاد والمقاومة، فدعمت المجاهدين وآوت المطاردين، وطافت على مواقع الرباط ونقاط التماس مع العدو، ترفع همم المرابطين وتشد من أزرهم وترفع من عزمهم، ولقد اختارها الشعب الفلسطيني كي تشغل منصب نائب في المجلس التشريعي الفلسطيني عن حركة حماس عام 2006م، لتستمر في جهادها وعطائها بدعم مشروع الجهاد والمقاومة في المؤسسات الرسمية الفلسطينية.
وشقيقه الأصغر الاستشهادي "محمد فرحات" ابن الـ (17 عام) الذي جهزّته أمه "أم نضال" بنفسها لتنفيذ عملية اقتحام لمستوطنة صهيونية، وظهرت معه في فيديو وصيته وهي تودّعه وتوصيه بأن يثخن في جنود الاحتلال، وألا يعود إلا محمولاً على أكتاف الرجال، فكان له ما أراد وأرادت بفضل الله؛ فلقد اقتحم البطل "محمد" عام 2002م مغتصبة "عتصمونا" جنوب قطاع غزة، وقتل لوحده 9 جنود صهاينة وجرح ما يزيد عن 20 جندي آخرين باعتراف العدو، وقد ظهر شهيدنا "نضال فرحات" في فيلم من انتاج كتائب القسام وهو يعكف على تدريب أخيه الاستشهادي قبل خروجه لتنفيذ العملية بأيام، يعلّمه كيف يصنع وماذا يفعل أثناء الاشتباك مع جنود العدو.
وأخيه الآخر هو الشهيد "رواد فرحات" الذي تربّى في أحضان عائلته المجاهدة، ورضع منها لبن الجهاد والاستشهاد منذ صغره، وترعرع وسط أسرته التي آوت بمنزلها عشرات القادة والمجاهدين، لينخرط في العمل الجهادي منذ نشأته ونعومة أظفاره؛ فلقد عايش قادة الصف الأول في كتائب القسام أمثال "عماد عقل" و"عدنان الغول" وأخيه "نضال" وغيرهم، وأبدع في مجال التصنيع العسكري، وأجاد صناعة العبوات الناسفة والقنابل اليدوية، والمواد الدافعة لصواريخ القسام، وشهدت لصولاته وجولاته أحياء الشجاعية والزيتون في تصديه لحملات الاجتياح الصهيوني المتكررة على مدينة غزة، ليرتقي شهيداً - نحسبه- بعملية اغتيال صهيونية غادرة عام 2005م بقصف سيارته شرق مدينة غزة بعد حياة جهادية حافلة.
"نضال فرحات" هو الابن البكر لخنساء فلسطين "أم نضال فرحات"، وهو قائد ميداني في كتائب الشهيد عز الدين القسام، وأول من صنّع صاروخاً في فلسطين برفقة الشهيد القائد - نحسبه – "تيتو مسعود"، ليُعرَف بين أوساط الفلسطينيين بأنه "مهندس الصواريخ" وصاحب فكرة تصنيع الطائرات المسيّرة، التي استهزأ بها البعض بدايةً، وظنّها البعض حلماً بعيد المنال، وظنها آخرون عبثاً لا طائل منه بسبب الحصار وضعف الإمكانات، وشحّ المعلومات وحداثة الفكرة في حينها، حتى أضحت اليوم أحد أهم أسلحة المقاومة الفلسطينية التي يحسب لها العدو ألف حساب، بعد أن حلّقت تلك الطائرات المسيّرة فوق وزارة الحرب الصهيونية وعادت إلى القطاع بسلام، ناهيك عن تطويرها مؤخراً حتى أصبحت تحمل صواريخاً مضادة للدروع والأفراد.
استشهد القائد "نضال فرحات" عام 2003م في عملية اغتيال معقّدة نفذتها أجهزة المخابرات الصهيونية، بعد زرع عبوةٍ ناسفة في طائرة صغيرة كان يُجهّزها مع اخوانه في وحدة التصنيع العسكري تعمل بالتوجيه عن بُعد، فقضى مع خمسة من الشهداء في وحدة التصنيع القسامية، هذه الطائرة التي أطلقت عليها كتائب القسام لاحقاً اسم "أبابيل" تم تطويرها وفق ثلاث نماذج "استطلاعية - هجومية - انتحارية"؛ حتى باتت تؤرّق كيان العدو وقادته المجرمين خوفاً من استخدام القسام لها في أي معركة قادمة، لجهلهم بمدى الإمكانيات والقدرات التقنية التي وصلت لها العقول القسامية في القدرة على السيطرة ودقة التوجيه ومدى التحليق لهذه الطائرات.
إن السيرة الجهادية العطرة والحافلة بالإنجازات والأفكار البنّاءة لهذا المجاهد المبدع الذي يحمل همّ شعبه وأمته؛ تحتّم على شباب الأمة أن يبذلوا قصارى جهدهم وأن يجودوا بخيرة أوقاتهم، وأن يجتهدوا في البحث والدراسة والابتكار لتطويع علمهم وخبرتهم في خدمةً مشروع الأمة الكبير، وإن هذا النموذج الراقي الذي تقدّمه تلك العائلة الصابرة توجِب على أولياء الأمور في المجتمعات العربية والإسلامية لتبنّي نهج الجهاد وطريق المقاومة، والدفع بأبنائهم نحو بذل الغالي والنفيس في دعم مشوار شعوبنا وأمتنا نحو تحقيق حلمها باستعادة عزتها وكرامتها ومجدها التليد، وفرض قيمتها ومكانتها بين شعوب الأرض، فشعوبنا المقهورة لن تذوق طعم الحرية ولن تتنفس عبير الكرامة حتى يصبح الجهاد فكرة والمقاومة ثقافة تتربى عليها الأجيال جيلاً بعد جيل.
كاتب ومدون