الصوفية في السنغال...نفوذ واسع وإمبراطورية سياسية واقتصادية

15 أبريل, 2019 - 10:34

بتفانٍ يشبه خشوع العابد المتبتل، يعمل أتباع الطريقة الصوفية المريدية من دون مقابل في مزارع الفستق بمدينة طوبى شرقي العاصمة السنغالية، إذ يعد العمل بإخلاص أهـم آصرة تربط المريديــن بشيوخهم الذين تلقوا عنهم اعتقادا بأن "الخلاص الحقيقي يكمن في الإنتاج والكد والعمل"، كما يقول الدكتور محمدو مباكي ديوف الباحث السنغالي في التصوف والذي يعتقد أن معارضي الصوفية وحدهم من ينظرون إلى عمل المريدين بـ"سطحية" إذ يصفون مثل هذه الأنشطة بـ"الاستغلال".

وتعد مزارع خلكوم للفستق من أكبر مراكز التربية والتعليم في السنغال، إذ تضم خمسة عشر مركزا لتربية وتعليم الأطفال بشكل مجاني، "ومتطلبات هذه المراكز الخمسة عشر وما فيها من آلاف الأطفال والشباب تفوق أحيانا المحصول الزراعي لخلكوم"، بحسب الدكتور ديوف.

المشايخ فاعلون في الاقتصاد السنغالي

تأسست الطريقة المريدية الصوفية عام 1893 علـى يد الشيخ أحمدو بمب داخل أوساط ريفية وفلاحية في مدينة طوبى على أساس وصيـة الشيخ لأتباعه بالاتجاه إلى الزراعة والفلاحة أساسا ثم التجارة، معتبرا الاتجاه إلى الاكتفاء ذاتيا جهادا مقدسا يستحق التضحية بحسب الباحث المتخصص في التاريخ السياسي لأفريقيا عبيد ولد إميجن، والذي لفت إلى أن مدينة طوبى التابعة لمحافظة ديوربل تعدد ثاني أكبر مدينة في السنغال من ناحية تعداد السكان والقوى الاقتصادية، بعد العاصمة دكار، إذ يقدر عدد سكانها بـ 600 ألف نسمة، وفق نتائج إحصاء رسمي ظهرت في عام 2013.

ويعد مشايخ الطريقة المريدية الصوفية من أبرز الفاعلين الاقتصاديين في السنغال نتيجة للعلاقات الإنتاجية لأتباع الطرق الصوفية وهي علاقات يعتبر التكافل دعامتها الأساسية، إذ استطاع "المؤمنون" كما يصفهم الباحث المتخصص في التاريخ السياسي لأفريقيا عبيد ولد إميجن، جمـع مبلغ 42 مليار و203 ملايين فرنك غرب أفريقي (70 مليون دولار) في الذكرى الـ117 لمهرجان ماغال طوبى لإحياء ذكرى عودة الشيخ أحمدو بمب من منفاه الذي أرسله إليه الفرنسيون مطلع القرن الماضي، وامتدت نشاطات الطرق الصوفية إلى قطاعات اقتصادية حيوية ومتنوعة كالزراعة والفلاحة والتجارة وقطاع النقل بعدما كان نشاطهم الاقتصادي يقتصر على زراعة بساتين الفول السوداني خلال الفترة الاستعمارية، حسبما يقول الباحث إميجن.

ويقر رئيس النادي الأدبي للمستعربين الباحث السنغالي فاضل ماكمبا كي، أن الاقتصاد الوطني السنغالي بيد أتباع مؤسسة الطرق الصوفية الأربع في السنغال (المريدية، التيجانية، القادرية، واللايينية) قائلا لـ"العربي الجديد": "زعيم الطريقة الصوفية المريدية الشيخ بمب كان يحث أتباعه على العلم والعمل وتناول ذلك كثيرا في قصائده الصوفية"، وهو ما مكن المريدين من لعب دورا هاما في اقتصاد السنغال، حتى أن جل كبار رجال الأعمال في السنغال من أبناء الطريقة المريدية، مثل أنجوغا كيبي، جيل أمباي، سرين أمبوب، شيخ عمار، شيخ سي بحسب الدكتور ديوف.

الدين في خدمة الساسة

يبحث السياسيون السنغاليون عن دعم مشايخ وأتباع الصوفية لهم كونهم يشكلون 99% من مسلمي السنغال الذين تصل نسبتهم إلى 96% من إجمالي عدد السكان البالغ 13.7 مليون نسمة وفقا لإحصاء عام 2013 بحسب الدكتور ديوف، الذي يؤكد على الأثر السياسي للطرق الصوفية منذ استقلال السنغال في عام 1960.

ويقول الباحث كي أن بعض أحفاد مؤسسي الطرق الصوفية المنتسبين إلى طائفته يعمدون في المواسم الانتخابية إلى التصويت لحزب ما، وليس في ذلك شيء يعاب، ولكن الخلل يكمن في بعد هؤلاء المشايخ عن الوعي السياسي وغياب الرؤية الواضحة لديهم بخصوص متطلبات الدين الإسلامي الذي يمثلونه.

وتجمع الطريقة الصوفية في السنغال بين الولاء الروحي والانتماء السياسي، وهي ثنائية تجعلها قطبا وازنا وسندا لا غنـى عنه للأتباع وللدولة على حد سواء، وفي هذا السياق تمثل الطريقة التيجانية ما نسبته 51% من السكان فيما يبلغ عدد أتباع الطريقة المريدية، 3.5 ملايين سنغالي وسنغالية ما يجعلهما قبلة لا يمكن للسياسيين تجاوزها إذا أرادوا الظفر بأصوات الأتباع وفقا للباحث إميجن، وبالرغم من علمانية الدولـة وفقا للدستور، فإن دوائر القرار السياسي تعمل على عـدم إغضاب المؤسسة الدينية في السنغال ممثلة في الطرق الصوفية وزعمائها الروحيين لضمان أصوات الناخبين، والذين يحصلون في مقابل ذلك على الكثير من الامتيازات مثل الحماية الاجتماعية والصحية، والتكفل بحل كافة مشاكلهم، وتأمين الدعم لهم في مجال التوظيف الحكومي والمناصب الانتخابية بفضل ما يتمتع به قادة تلك الطرق من نفوذ وتأثير روحي عريق كما يقول الباحث الموريتاني المتخصص في الشؤون الإفريقية السالك ولد عبد الله.

طاعة ولي الأمر

تعتبر طاعة الأتباع لمشايخهم واجباً دينياً في سياق "طاعة ولي الأمر" ما يجعل لهذا الأمر تأثيرا على الساحة السياسية، ولعل هذا ما دفع معظم السياسيين الطامحين لرئاسة الدولة إلى إعلان انتمائهم إلى الطائفة المريدية وفق الدكتور ديوف.

بيد أن الباحث ولد عبدالله يعتبر تأثير المال السياسي والحضور الروحي في الحياة الديمقراطية قد تراجع كثيرا خلال العقدين المنصرمين في السنغال بفضل تزايد الوعي وانتشار الحركات المدنية وخلق مجتمع مدني ناشط وحاضر بفعالية كبيرة في المشهد السياسي.

لكنه يعترف بأن التأثير المعنوي للزوايا الصوفية ما زال متجذرا بقوة في هذا البلد، وأغلب أولئك المشايخ اليوم أقرب لمعسكر حزب الرئيس السابق عبد الله واد، منها للرئيس الحالي ماكي صال، وقد أعلن أغلب مشايخ الطرق الصوفية دعمهم لنجل واد، كريم واد في رئاسة 2019.

الأتباع في خدمة الشيخ

ساهمت ثقافة الخدمة في توسيع إقطاع مشايخ الصوفية الزراعي، ما حولهم إلى مستثمرين كبار بفضل الأموال الطائلة التي يجنونها من خلال عمل الأتباع، كما يقول الباحث ولد إميجن، لكن الباحث ماكمبا كي، يرى أن حكاية استغلال المشايخ للفلاحين فيها مبالغات كثيرة، قائلا "صحيح أن بعض مشايخ الصوفية كانوا، ولا يزالون يطلبون من أتباعهم زراعة وحصاد حقولهم، فيهرول هؤلاء المساكين إلى المزارع طلبا للثواب، أو ثناء الشيخ عليهم، لكن ذلك تغير كثيرا في السنوات الأخيرة". 

ويضيف قائلا لـ"العربي الجديد": "الملاحظ الآن في المؤسسة المريدية، أن المشايخ هم الذين يساعدون أتباعهم بالمال، وحتى يساعدون على تسفيرهم إلى أوروبا، أو أميركا بعد توفير جوازات لهم من الحكومة، أو تأشيرات من السفارات الغربية لما يتمتعون به من النفوذ لدى رجالات الدولة ولدى بعض أعضاء السلك الدبلوماسي".

ويتفق معه الدكتور ديوف قائلا: "ما يجري ليس استغلالاً أو سخرة، بل خدمة والخدمة شكل من أشكال العمل التطوعي الذي نراه في المجتمعات المختلفة، والمسمى بـ Bénévolat، الفارق بين الأمرين أن للخدمة بعدا روحيا يتجاوز التفسير المادي للأشياء".

ويؤيد ديوف حديثه بما جاء في الاتفاقية الدولية الخاصة بالسخرة التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في عام 1930 والتي أخرجت من يعمل بمحض إرادته من هذا التصنيف، ونصت في مادتها الثانية على أن "عمل السخرة أو العمل القسري يعني جميع الأعمال أو الخدمات التي تفرض عنوة على أي شخص تحت التهديد بأي عقاب، والتي لا يكون هذا الشخص قد تطوع بأدائها بمحض اختياره"، لكن كتاب إرواء النديم من عذب حب الخديم سيرة الشيخ أحمدو بمب، لمؤلفه الشيخ محمد الأمين جوب الدغاني يشير إلى أن الشيخ بمب كان يحث المريدين للعمل تسويغا لاستغلال طاقاتهم في العمل حتى يتفرغ الشيوخ للعلم.

نقلا عن : "العربي الجديد"