إذا ما استثنيا الانتفاضة الثالثة، التي لم تَرُق لأولئك الذين باتوا متخصصين في مديح الوضع القائم، في كل مكان، فإن السنة التي ودّعناها، لم تحمل سوى الكثير من المآسي، مع استمرار نزيف الدم العربي، واتجاه بقاع عربية كثيرة نحو الصهينة، أكثر فأكثر.
ومع أن الواقع المرّ لا يحتاج إلى دليل، في زمن تستطيع فيه حتى العيون المغلقة أن ترى بوضوح شديد أدق التفاصيل وأكثرها تخفّيا، إلا أن الانحدار العربي تواصل، مُعززا بانحدار السلطة الفلسطينية التي باتت تتفنن في فقء أعين الكلمات والحقائق، من الكتب المدرسية التي لم توجد إلا لتكون لأعين الأطفال النوافذ التي يرون عبرها الغد، والعقول العصية على التغييب، حتى ساحات العالم التي كلما حشدت أرواحها لتكون مع فلسطين العدالة والحرية والمستقبل من جديد، أطلّ مسؤول فلسطيني ليُربك ذلك كله وهو يتخذ موقفا داعما للدولة الصهيونية في هذا المحفل أو ذلك، بدءا بالرياضة وانتهاء بتلفيق لجان التحقيق المشتركة مع الصهاينة، اللجان التي تتشكل عقب كل جريمة صهيونية.
بودي أن أسأل عباقرة السلطة الآن، بعد كل الأشهر الطويلة التي مرت على جريمة إحراق الطفل على الدوابشة وأسرته، إلى ماذا توصــــلت لجنة التحقيق، بل بودي أن أسأل في أي مستعمرة كانت تجتمع هذه اللجنة المشتركة، أو في أي معسكر للجيش الصهيوني بسطت الأوراق والأدلة والصور، لكي تصل إلى حقيقة ما جرى.
في ظل ارتباك هذه السلطة وحلكة ليل الانقسام الفلسطيني، يبدو الوضع مهيأ تماما لمزيد من الخسارات، وكأن مهمة السلطة باتت قائمة في سحب البساط من تحت كل محاولة شجاعة للوقوف مع فلسطين وشعبها، وبخاصة حركة المقاطعة العالمية التي باتت تتسع رافضةً تذوّق أي حبة برتقال مسممة بحقد المستوطنين أو أي فكرة تنتجها آلة الدعاية الصهيونية الكاذبة التي لا تتوقف عن ضخ العماء والبكاء الكاذب والتمسكُن في كل وسيلة إعلام عالمية مُشرعة لها، وحلال عليها.
وعلى مستوى آخر، يكتشف الإنسان أن السنة الفارطة، على حد تعبير أحبائنا في تونس، قد حملت لنا ككتاب ومشغولين بما يحدث ظاهرة جديدة تتمثل في أنه بات علينا أن نخوض معارك ما كنا نخوضها مع أمثالنا، كانت الساحة الثقافية العربية حصنا حقيقيا للحرية ضد كل استبداد، داخليا كان أم خارجيا، ولكننا اكتشفنا أن علينا أن نخوض معارك متواصلة، بما يعنيه ذلك من إرباك للبشر. ففي لحظة يطلّ عليك كاتب ويُبرئ الصهاينة من جرائم اعترفوا بها هم أنفسهم، أو يطل عليك آخر يشكك في أفكاره الصافية القديمة، معلنا أن ذاك الذي زار الكيان الصهيوني، ربما يكون على حق، ويخرج آخر، لا تعرف من أين، مبررا سحق الفلسطينيين ودعوة الجيش الصهيوني لمحوهم.. ونحن لا نتحدث هنا عن ذئاب السلطات الذين فُتحت لهم كل قنوات العواء لكي تمارسه ليس في الليالي القمرية وحدها، بل في كل الليالي.
وفي وقت ترى فيه برلمانات كثير من الدول تعترف بفلسطين (بما يعنيه ذلك في جوهره من اعتراف بما لحق بالفلسطينيين من ظلم، نكتشف أن هناك سباقا عربيا من تحت الطاولات ومن فوقها لمدّ السجادات الحمراء للدولة الصهيونية لهذه العاصمة أو تلك، وكأن هذه العواصم كلما رأت إحدى دول العالم تعترف بفلسطين، ردت من فورها لتعترف هي بالكيان الصهيوني نكاية بهذه البرلمانات وتلك الدول وضمائر شعوبها، وضمير الشعب العربي نفسه.
لكن فلسطين، فلسطين الحرية والعدالة، لا تتوقف لتُحصي عدد من خانوها، إنها تواصل مسيرتها، وتنهض في كل مرة بثورة جديدة مختلفة عن سابقتها، مجددة قدرتها الدائمة على الإبداع، مرة بحجارة أطفالها، ومرة بنصال شبابها، سائرة في طريق جلجلتها حتى تلك اللحظة التي تستيقظ فيها عقول عواجيزها الذي بلغوا سن التقاعد النضالي والوطني منذ زمن بعيد.
إن السؤال الذي يؤرق المرء دائما، هو: لماذا كلّما كبر أحد الرموز انطفأ، وبدا نادما على كل ما سطّر من صفحات قد تكون ناصعة في حالات كثيرة، لماذا يحمل ممحاة ويمضي متوكئا على ما بقي فيه من رمق، ليمحو ماضيه وماضي شعبه، ثم يرتد وقد تخفف من وطنيته ليمحو المستقبل، لا لشيء، إلا ليُسمح له أن يعيش ما تبقى له من أرذل العمر وفق المواصفات التي يضعها عدو شعبه، عدو الإنسانية..
لماذا يحدث هذا؟! ولماذا لم يستطع أي منهم أن يتجوهر ليكون مانديلا فلسطين؟! بل لماذا يعملون على قتل كل مانديلا جديد، سواء بالمحاصرة أو بالتغييب أو بالحرص المستميت أو المراوغ على أن يبقى في عتمة السجون الصهيونية؟!
وبعد:
الذي قتلَكْ
في المساء ليحتلَّ صبحا مكانَكْ
شابَ.. ولما يزلْ عاجزًا
أن يمتطي يا حبيبي حصانَكْ
إبراهيم نصر الله القدس العربي