
عندما خرجت اللبرالية من تحت معطف الثورة الفرنسية وقرن أنوار النهضة في أوروبا، مركز العالم المعاصر.. وقتها، لم تكن تعرف أنها قد تتحول بعد نحو ثلاثة قرون، من الدفاع إلى الهجوم: من الدفاع عن القيم الفولتيرية وفلسفة الحق والحريات، إلى التنكر لهذا الإرث الذي أنتج أكبر نظام رأسمالي على أنقاض الإقطاعية المتهالكة من الداخل.
كانت اللبرالية، كفلسفة اجتماعية، تعمل ضمن مشتلة العقل العلمي والعملي، بعيدا عن اللاهوت وطغيان “الحق الإلهي”، منذ العصور الرومانية، وتغرس بذور الفكر الحر المستقل والنقدي، والمنطق السليم في الدفاع عن حرية الفرد والجماعات ووضع حدود لها، وضبط عمل المؤسسات واستقلالها وتفعيل العقلانية والعلمانية كسبيل لفصل السلطات، من أجل تثبيت حق المواطنة وحقوق المواطنين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم.
هذا الاتجاه، سينمو خلال قرنين تقريبا ضمن رحم الرأسمالية الناشئة، التي حرّرت العالم الغربي من قيود عهد الظلمات الكنسية والإقطاع وسلطة الملكية والنبلاء، لكن قليلا منهم كان يتصور أن هذه الموجة وهذه النخب قد تتحول مع الوقت، بل وتنقسم إلى لبراليتين: لبرالية رأسمالية مدافعة عن الرأسمالية كنظام اقتصادي وسياسي ضمن ما تسميه “الديمقراطية”، التي هي حكم الشعب بالأغلبية، إما النسبية أو المطلقة، وهو نظامٌ إغريقي روماني وليد أثينا وديمقراطيتها الأولى، أو لبرالية يسارية، نمت في أتون الحرب العالمية الأولى، بعد أن انبثقت من فلسفة الثورة على الرأسمالية، التي تحوّلت من رأسمالية ناشئة إلى رأسمالية متوحشة، كانت تسير في توجُّه استعماري، قال بشأنها لينين في ما بعد: “الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”.
هذا التوجُّه، هو السائد اليوم، بعد شبه أفول لليسار في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
ما نشهده اليوم، منذ نحو 40 سنة، هو هيمنة النظام الرأسمالي العالمي على العالم. ولمّا نتحدث عن الرأسمالية العالمية، نتحدث عن إمبراطورية المال وكبريات الشركات العالمية التي تسيطر حفنة منها، تُعدّ على أصابع اليدين، على الاقتصاد العالمي، بدءا من القطاع البنكي المالي الربوي، مرورا بالخدمات والاتصالات، وانتهاء بشركات تجارة السلاح والجنس الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد السلاح عالميا.
النتيجة أن الأخلاق الكلاسيكية لم تعد تلبي متطلبات الرأسمالية الجديدة، ومن ثمّ، فالنخب لم تعد هي الأخرى تجد في هذه المفردات الفلسفية الناعمة، مجالا خصبا لتغذية العقول الجائعة التواقة إلى “استهلاك بلا حدود” وشهوة “حاجات” بلا ضوابط.
انهيار منظومة الأخلاق، وإن لم يحدث كليا، ولا يزال حاضرا، لكن مسيطر عليها في العموم من طرف القوى والنخب المهيمنة، هو ما يفسِّر السكوت شبه المطلق لكثير من النخب السلطوية إزاء رؤية الفظائع التي تحدث أمام الأعين، وعلى المباشر، وبشكل يومي، وعلى مدار الساعة، من تقتيل وتجويع ونسف وترويع وتهجير وإبادة في غزة والضفة، وإن تحدّثت، فبصوت خافت، وخجول، لا يصل إلى المسامع.
يبدو كل هذا كما لو كان الأمر تواطؤا، وهو فعلا كذلك، إنما من باب الرغبة في الظهور بمظهر الإنسانية، تنبري بعض الأصوات هنا وهناك، من بيدها الحل والربط، متباكية، متأسفة، من دون الذهاب إلى أبعد من ذلك. هذا في الوقت الذي تزخر فيه مشاتل الشباب الرافض للهيمنة الرأسمالية المتوحِّشة، المفترسة، في كل بقاع العالم، في الغرب الأمريكي والأوروبي على حد سواء، ما يجعلنا نعتقد أن الـ40 سنة المقبلة ستزرع بذور تغيرات جديدة كبيرة في العالم، انطلاقا من تغير الأخلاق العالمية وانهيار المنظومة القانونية التي كانت تسيِّر العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.