الحب في السياسة

25 أغسطس, 2020 - 21:27

الأسبوع الماضي فقدت تونس، أحد أبرز لاعبيها لكرة القدم على مر التاريخ، وأحد أشهر عناصر المنتخب الوطني في كأس العالم بالأرجنتين عام 1978.
حمادي العقربي، لاعب وسط المنتخب الوطني والنادي الصفاقسي، ترك اللعب أواسط ثمانينات القرن الماضي، وملحمة الأرجنتين التي خاضها مضى عليها 42 عاما، أي أن الأغلبية الساحقة من التونسيين، وهم من الشباب لم يشاهدوه على أرض الملعب فجل ما يعرفونه عنه منقول عمن هم أكبر منهم سنا أو بعض اللقطات الأرشيفية من الإنترنت.
ورغم ذلك لم تجد مدينته صفاقس، من مكان يمكن أن يتسع لعشرات آلاف مشيعيه ومحبيه سوى «ملعب الطيب المهيري» نفس الملعب الذي شهد أغلب إبداعاته، كما لم يتغيب عن هذا التشييع الكبير لاعبون كبار من الجيل الحالي ومن جيله، من أبناء المنتخب نفسه أو من فرق أخرى، كما حضرت قيادات سياسية وحزبية مختلفة، فيما وقع تأبينه داخل الملعب نفسه، التي امتلأت مدارجه، من قبل رئيس الحكومة.
العبرة من هذا التشييع الجماهيري الكبير والمؤثر لفنان في عالم كرة القدم، عن 69 عاما وبعد معاناة مع مرض السرطان، أن الناس لا تنسى دائما من أسعدها في أي مجال كان، وأن من عاش سنوات هذه السعادة قادر على إظهار امتنانه ونقله إلى من لم يعشها فينتقل الحب من جيل إلى جيل. جمع حمادي العقربي بين الابداع الكروي والسمو الأخلاقي بتواضعه الكبير وخلوّه من أمراض المشاهير المعروفة، ولهذا عشقه الناس، كما لم يعشقوا نجما كرويا قبله، سواء كانوا من مشجعي فريقه أو من مشجعي منافسيه التقليديين الكبار حتى صار محل إجماع وطني يندر وجوده في عالم الرياضة.
ليس سهلا أن يظل الناس محتفظين بحب قديم، فما بالك أن ينقلوه إلى غيرهم، فقد جرت العادة السيئة أن يصفق لك الناس ويهتفون باسماء كثيرين، فإن تواروا عن أنظارهم لم يعد يذكرهم أحد.
حب الناس كنز لا يقدر بثمن، وإذا ما كان هذا الحب نابعا من فيض صادق للمشاعر فمن الصعب أن يكون النكران أو النسيان مآله. حب الناس هذا لا يباع ولا يشترى ولا علاقة له البتة بأي حب منافق تفرضه الحاجة أو المصلحة أو القوة فأغلب من صدحت لهم الحناجر «بالروح بالدم نفديك يا»…. لم يجدوا أحدا عندما دارت عليهم الدوائر، وقد لا يجدون حتى من يترحم عليهم يوم يرحلون.

حب الناس كنز لا يقدر بثمن، وإذا ما كان هذا الحب نابعا من فيض صادق للمشاعر فمن الصعب أن يكون النكران أو النسيان مآله. حب الناس هذا لا يباع ولا يشترى ولا علاقة له البتة بأي حب منافق تفرضه الحاجة أو المصلحة أو القوة

حب الناس لا يتأتى بتخطيط مسبق، هو عفوي بالضرورة، كما أن استمراره ليس مضمونا دائما فأمزجة الناس غير ثابتة في المطلق. مع ذلك، نجحت أسماء عديدة ليس فقط في اعتراف أهل الذكر بجدارتها في مجالها، وإنما استطاعت بالتوازي مع ذلك أن تنتزع حب الجماهير لسحر خاص، أودعه الله فيهم، ولجمال روح استطاعت بمعادلة «كيمياوية» معينة أن تصل إلى قلوب الجميع.
حب الناس هذا يبدو أكثر تعقيدا في عالم السياسة فهو بعيد جدا عن سلاسة وصفاء الحب حين يتعلق بنجوم رياضيين تجد لهم في كل بلد معجبين وعشاق، أو بقمم طربية استطاعت تجاوز حدود أقطارها لتعانق كل العرب أينما كانوا، أو حين يتعلق الأمر بممثلين كبار مبدعين في عالم السينما والتلفزيون.
حب الناس لرجل السياسة مختلف تماما ففيه تختلط اعتبارات عدة، فيها القناعات وكذلك الهوى، وفيها أيضا تتدخل أجهزة أمنية وعسكرية ووسائل إعلام لتجييش حب ما تجاه شخص، وفي الغالب بالتوازي مع تجييش معاكس نحو كره لخصومه.
في غياب عمليات سبر آراء ذات مصداقية وفي غياب انتخابات شفافة وغير مزوّرة من الصعب الوقوف بالضبط عند شعبية رجل السياسة هذا أو ذاك، كما أن هذه الشعبية أو هذا الفوز الانتخابي قد لا تكون له علاقة بالمشاعر كالحب أو غيره بقدر ما هو مرتبط ببرامج ومشاريع وإنجازات على الأرض يلمسها الناس في حياتهم اليومية.
للتاريخ أيضا أحكامه وسياقاته فحب المصريين والعرب لجمال عبد الناصر، على سبيل المثال ليس إلا، قد يعود إلى أنه حرّك في وجدانهم شعورا ما بالكرامة في مواجهة غطرسة القوة الاستعمارية، لكن ممارسات الرجل الداخلية في مجال الحريات وحقوق الإنسان لا يمكن إلا أن تكون محل بغض قد لا يراه غير المصريين دون غيرهم. في المقابل، لم يستمر طويلا ما رُوج في مصر في السنوات الماضية عن حب المصريين لعبد الفتاح السيسي حتى ظهر زيفه. كذلك، تحسرُ كثير من العراقيين على عهد صدام حسين الآن لا يعني بالضرورة أنه كان محل حبهم عندما كان في الحكم، فقد كانوا هم الوحيدين من اكتووا بنتائج خياراته، في وقت كان فيه الرجل نفسه محل حب الأردنيين وغيرهم في تونس والجزائر مثلا.
مفارقات كثيرة، لكن في النهاية لا علاقة للحب بالسياسة لأنها إنجاز ونتائج ومكاسب للوطن والمواطن قبل أي شيء آخر، فيما يبقى الحب فيها قيمة مضافة لمن يستحقه من رجالاتها.

محمد كريشان

كاتب وإعلامي تونسي