«لبننة» حزب الله

15 أغسطس, 2020 - 12:12

استقالة حكومة حسان دياب كانت أهون المتوقع، فقد كان لا بد لطبقة الحكم الفاسدة من تقديم «كبش فداء» في محرقة بيروت، وحتى لا يضطر الرئيس أو البرلمان إلى الرحيل المبكر، وقد رد دياب التحية بأسوأ منها، وهو يقدم مجبرا خطاب استقالته، وأعلن ببساطة أن «الفساد أقوى من الدولة»، ولم يبق لدياب وحكومته الناقصة باستقالات سبقت، سوى أن يواصل «تصريف الأعمال»، ومن دون صلاحية اتخاذ أي قرار أساسي، من عينة ما تطلع إليه قبل استقالته بيومين، حين أعلن نيته في تقديم قانون انتخاب جديد إلى مجلس النواب، والدعوة إلى انتخابات مبكرة كطلب الشارع المستشيط غضبا، الطافح ألما بعد الدمار شبه الذري لنصف بيروت بسبب انفجار الميناء المريع.
وقد لا يبكي أحد على حسان دياب في لبنان، وقد قضى في رئاسة الحكومة نحو ستة شهور، بدا فيها متلكئا تائها ضائعا، ومدعيا أنه شكّل حكومة كفاءات مستقلة، خص فيها النساء بست وزارات من بين عشرين، ومن دون أن تظهر فيها كرامة للوزيرات الجميلات، ولا للوزراء المتحذلقين، ثم كان الذهاب إلى حيث ألقت من نصيب الكل، فقد جاءوا وذهبوا في أسوأ مراحل احتدام الأزمة اللبنانية المعقدة، وفي أقسى لحظات حصار واعتصار لبنان، وطاردتهم أقدار انهيار «الليرة» وجائحات كورونا، ثم قضي الأمر سريعا بتوابع وزوابع انفجار مخزن «نيترات الأمونيوم»، المودعة في ميناء بيروت منذ سبع سنوات خلت، ومن دون أن تكون سببا مباشرا في قصف أعمار حكومات نجيب ميقاتي، ثم تمام سلام ثم سعد الحريري، وكلها عاصرت مأساة تخزين «نيترات الأمونيوم» الخطرة، التي تحولت لسوء حظ حكومة دياب إلى «نيترات الجحيم»، على حد الوصف اللبناني الشائع.
ولم يبد «حزب الله» ممانعة في ذهاب دياب، رغم اعتياد دوائر في الإعلام اللبناني والعربي والغربي وصف حكومته بأنها «حكومة حزب الله»، ولم يكن للحزب فيها سوى وزيرين، في حين ذهبت أغلب الوزارات إلى حلفاء «حزب الله»، من نوع «حركة أمل» و»التيار الوطنى الحر» والآخرين، ولكن مع المحافظة على توزيع الحصص الطائفية بدقة، كما هو المعتاد في الصيغة اللبنانية المهترئة، وهو الأمر الذي لن يتغير غالبا بعد نهاية عهدة دياب، فسوف تمضى أسابيع طويلة من المفاوضات والمساومات الشاقة، قد لا تأتي بنواف سلام السني المستقل، كما يأمل متفائلون، وقد يعود بعدها سعد الحريري لرئاسة الحكومة، كما تفضل دوائر غربية وخليجية مؤثرة، وكما يرغب الأمراء الدينيون والسياسيون في الطائفة السنية، التي لها الحق الحصري في رئاسة الحكومة، بحسب توزيعات الحكم الطائفي، وكانت ترى في حسان دياب ممثلا هامشيا للطائفة، وليس أساسيا كحالة سعد الحريري وآله، ولهم حزب «تيار المستقبل» صاحب الأكثرية في التمثيل البرلماني السني، تماما كحالة الرئيس ميشيل عون وتياره صاحب الغلبة في التمثيل البرلماني الماروني، وكحالة نبيه بري الذي يحتكر بحزبه «حركة أمل» مع «حزب الله» تمثيل الشيعة برلمانيا وحكوميا.

أزمة لبنان قابلة للتفاقم والاشتعال مجددا، وخيار الحريري لن يكون البلسم الشافي بالضرورة

المعنى إذن، أن أباطرة الطوائف قد يعودون للتوافق مجددا، وبهدف تهدئة غضب الشارع الساخط على الكل، وقد يشدون إليهم حزب وليد جنبلاط، الممثل الأبرز للطائفة الدرزية، ومع احتمال أقل لاجتذاب سمير جعجع المناوئ لسيطرة تيار عون على التمثيل الماروني، ومع احتمال معدوم لجذب «حزب الكتائب»، الذي راح أمينه العام ضمن ضحايا انفجار بيروت، واستقال نوابه الثلاثة من مجلس النواب، وهو ما قد يؤدي إلى استعادة أطراف حكومة الحريري المستقيلة على وقع أيام الغضب الأولى في انتفاضة 17 أكتوبر 2019، وبغير مانع من تصوير الحكومة المنتظرة كحكومة كفاءات مستقلة حيادية، ومع وضع هدف إجراء انتخابات نيابية مبكرة في برنامج الحكومة، وتنقيح القانون الانتخابي لجعله أكثر مدنية وأقل طائفية، ولن تكون النتيجة غالبا ملبية لنداءات وآمال الشارع، وهو ما يدركه صناعها المحتملون، وهم لا يريدون أكثر من تهدئة عابرة، قد تمتص بعضا من الآثار الخطرة لحكم إدانة متوقع لعناصر من «حزب الله» من قبل محكمة الحريري الدولية يصدر بعد أيام، قد تنقضي ضمن مهلة لحكومة تصريف الأعمال، يتاح فيها استيعاب التوترات المذهبية المستعرة بين السنة والشيعة بالذات، والعودة لإقامة تحالف الضرورة الطائفية، وبدعوى أنه لا يمكن لأحد استبعاد أحد، فكما لا يمكن استبعاد جماعة الحريري، فلا يصح أيضا استبعاد «حزب الله»، وهذه هي المعضلة الكبرى، التي تواجه إغراء عودة الحريري الابن لرئاسة الحكومة، فالمتحمسون للعودة يريدونها فرصة لجلب المعونات المالية الخارجية، واستطراد التعاطف الدولي مع لبنان بعد محنة بيروت، الذي أسفر عن معونة محدودة، وتعهدات بإعانات أقل من 300 مليون دولار، يريد أنصار عودة الحريري مضاعفة مئات ملايينها الموعودة إلى مليارات الدولارات، وأغلب من بيدهم تقديم المليارات، يوافقون طبعا على عودة الحريري، ولكن مع استبعاد «حزب الله» من الحكومة، بل ونزع سلاحه كليا، وهو ما لا يقدر عليه أحد من لبنان أو من خارجه، إلا بإشعال حرب أهلية طاحنة، لا يريدها طرف أو يقدرعليها في لبنان، خصوصا بعد تبين عجز إسرائيل صاحبة المصلحة عن نزع سلاح الحزب بالحرب، التي يهدد نتنياهو رئيس وزراء العدو، وشريكه المخالف غانتس بالعودة إليها في أي وقت.
ومحصلة ما يجري وما هو محتمل، أن أزمة لبنان قابلة للتفاقم والاشتعال مجددا، وأن خيار الحريري لن يكون البلسم الشافي بالضرورة، فالدودة في أصل الشجرة، وإدمان توزيعات، وتواطؤات الحكم الطائفي هو أصل علة الفساد المتوحش، وليس بوسع طرف طائفي، لا الحريري ولا غيره، أن يجرى إصلاحات تتطلب تضحيات، ولا التحول بلبنان إلى دولة وطنية ديمقراطية، ولا تقويض صيغة الحكم الطائفي المؤكدة بدستور «الطائف»، فالطائفية متجذرة في النفوس بعد النصوص، والمستفيدون من بقائها يواصلون ألعابهم الأكروباتية، يتخالفون حينا ويتفقون أحيانا، وقد لا يفيد اتفاقهم كثيرا هذه المرة، حتى لو بدت فرنسا متحمسة لاتفاق على الحريري، حاورت فيه إيران، وحتى لو حاول رئيس فرنسا ماكرون تخفيف التشدد في الموقف الأمريكي ضد مشاركة «حزب الله»، وسعي واشنطن إلى إضافة عقوبات جديدة على أي طرف لبناني، يحالف أو يحاور «حزب الله».
وبالجملة، فقد لا تكون من فرصة لكسر الدائرة اللبنانية المفرعة، سوى بموقف آخر مختلف من «حزب الله» نفسه، كان فيه وقت بلوغه ذروة شعبيته لبنانيا وعربيا، وكان متفرغا وقتها لهدف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لا سواه، وكتب ملحمة مجيدة من المقاومة في جنوب لبنان على مدى عشرين سنة، أذل فيها قوات الاحتلال، وأجبرها على الخروج والانسحاب بغير قيد ولا شرط، ومن دون توقيع اتفاق سلام ولا صك تطبيع، وصنع الحزب مثالا ملهما للمقاومة المسلحة من نوع مختلف، لعب إلهامه دورا مؤثرا في الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي أرغمت العدو على الجلاء عن غزة، وتفكيك مستوطناتها اليهودية من طرف واحد، ثم تحول «حزب الله» بعد خوضه حرب 2006 إلى قوة ردع هائلة، جعلت من لبنان الضعيف أقوى كيان عربي في مواجهة إسرائيل على الجبهة الشمالية، ووفرت للبيئة اللبنانية الهشة أقوى عنصر ردع ضد مخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة، لا يخشى المتحمسون لها سوى من قوة «حزب الله» المفرطة عسكريا بالقياس إلى الآخرين، والمعنى ببساطة، أن قوة حزب الله تنطوى على ضمانة أمان للبنان داخليا، بشرط أن تعي قيادة الحزب حدود المزايا، وأن تجري جراحة تفكير عميقة، تتخفف بها من تبعات الولاء الأعمى للقيادة الإيرانية، وتزيد من تأكيد لبنانية «حزب الله»، فلم يكن مفيدا للحزب أن يتورط في خطايا الحرب الطائفية الكافرة في سوريا، ولا أن يتحول إلى فيلق تابع لجماعة «الحرس الثوري» في إيران، كما لم يكن مفيدا له أن يغرق في مستنقعات الحكم الطائفي في لبنان، خصوصا مع تصاعد غضب أغلب اللبنانيين ضد الحكومات الطائفية، التي قد يصح لحزب الله الابتعاد عنها تماما، والاكتفاء بدور برلماني واجتماعي وخدمي في صفوف ومناطق جمهوره، والتحول بموقفه إلى دعم حقيقي لانتفاضات الغضب الشعبى المتواتر، وبما يكسب ثورة الغضب اللبناني حليفا قويا، لا يخشى التحول إلى حكم مدني ديمقراطي لا طائفي، يكسب فيه الحزب أصوات ثلث اللبنانيين في مطلق الأحوال، ومن دون احتياج لمشاركة هزيلة في اقتسام الكعكة الطائفية، فالخيار الأفضل للحزب حتى بالمعنى البراغماتي، هو «لبننة» سياسته، وبما يفتح طريقا سالكا لإنقاذ لبنان وإنصاف قاعدته الشيعية ذاتها

عبد الحليم قنديل

كاتب مصري