انعقدت القمة وانفضّت

4 أبريل, 2019 - 11:14

لم يتوقع أحد أن يصدر عن القمة العربية التي انعقدت في تونس هذا الأسبوع، أكثر من بيان سياسي بليغ العبارات وفارغ المحتوى، وأظن أن أقصى ما تمناه بعض الحالمين، هو أن ينجح القادة العرب في الاتفاق على آلية تسمح بوقف حالة التردي المستمرة منذ عقود طويلة، طالموا أنه ليس بمقدروهم اتخاذ خطوات تكفل معالجة جذور المشكلات التي أوصلت الأوطان إلى ما هي عليه الآن، من ضعف وهوان. لكن يبدو أن هذا الأمل، رغم تواضعه، كان أكبر من طاقة الزعماء الذين تجشموا عناء السفر للمشاركة في قمة عربية جديدة.
لذا أعتقد أن كافة المتابعين لما يجري في المنطقة، المتشائمين منهم والحالمين على حد سواء، يدركون الآن بوضوح أن الأوضاع المأساوية التي تعيشها الشعوب العربية ستظل بعد هذه القمة، ليس فقط مثلما كانت عليه قبل التئامها، لكنها مرشحة للتفاقم أكثر. فإلى من يتعين توجيه اللوم على مصير بائس ينتظر الشعوب العربية؟ لجامعة الدول العربية؟ أم للقادة والحكام العرب؟ أم للنخب والشعوب العربية نفسها؟
ربما يكون من المفيد لنا جميعا أن نتذكر حقيقة مهمة وهي، أن جامعة الدول العربية لم تصمم أصلا لتكون أداة لتغيير العالم العربي أو تطويره، وأنها كانت وما تزال مجرد مرآة عاكسة لما يجري في هذا العالم من تفاعلات. لذا فليس من الإنصاف تحميل الجامعة العربية كامل المسؤولية عما أصاب العالم العربي من تدهور، خصوصا أن علاقة هذه المؤسسة الإقليمية بما يجري من تفاعلات على الساحة العربية كان أقرب ما يكون إلى وضع الشاهد أو المراقب منه إلى وضع الشريك أو الفاعل. ومن المسلم به أنه أريد للجامعة العربية منذ البداية أن تكون أداة للتنسيق بين سياسات دول مستقلة ذات سيادة، وليست أداة لتحقيق نوع من التكامل أو الوحدة بين دول ترتبط شعوبها بروابط تاريخية وثقافية عميقة، ومن دون أن يطرأ على مؤسساتها أو هياكلها التنظيمية، أو آليات صنع القرار فيها أي تغيير يذكر منذ تأسيسها عام 1945 وحتى الآن. ما تغير على مرّ هذه الأيام والسنين والحقب الطوال هو بنية النظم العربية الحاكمة، بسياساتها وتوجهاتها الداخلية والخارجية المختلفة، وهو تغيير كانت جامعة الدول العربية شاهدة عليه، أو مرآة عاكسة له، لكنها لم تكن أبدا صانعة له أو حتى مشاركة فيه.
من المعروف أن الدول العربية كانت، عشية تأسيس جامعة الدول العربية، إما محتلة مباشرة، أو واقعة تحت الهيمنة السياسية لواحدة أو أكثر من القوى الاستعمارية الأوروبية. سبع من هذه الدول فقط، هي: مصر وسوريا ولبنان والعراق وإمارة شرق الأردن والسعودية واليمن، كانت «شبه مستقلة»، ومن ثم هي التي أخذت على عاتقها مهمة تأسيس جامعة الدول العربية بمجرد أن تلقت ضوءا أخضر من بريطانيا، التي كانت تخشى من انحيازها إلى المحور في الحرب العالمية الثانية. ورغم خلافات عميقة ظهرت بينها حول ماهية «العمل العربي المشترك» وآليات تفعليه، إلا أن الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية توافقت في ما بينها على أرضية مشتركة للتعاون تدور حول محورين:
*الأول: رفض المشروع الصهيوني الرامي لإقامة دولة يهودية مستقلة على اي جزء من الأراضي العربية، حتى لو تطلب الأمر خوض الحرب لإسقاط هذا المشروع.
*الثاني: دعم نضال الشعوب العربية الساعية لتحرير ترابها الوطني، بمن فيها الشعب الفلسطيني، ومساعدة هذه الشعوب للحصول على استقلالها السياسي كي تتمكن من الانضمام لاحقا إلى جامعة الدول العربية.
لم يكن غريبا، في سياق كهذا:
أن يصبح التصدي للمشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية هو البند الرئيسي المدرج على جدول أعمال أول مؤتمر للقمة العربية، وهو المؤتمر الذي دعا إليه الملك فاروق وعقد في أنشاص عام 1946، أي بعد عام واحد من قيام الجامعة العربية، وأن تقرر الدول العربية دخول الحرب في مواجهة إسرائيل بمجرد إعلان قيامها عام 1948، وأن تصبح القضية الفلسطينية هي البند الأهم على جدول أعمال معظم القمم العربية التالية، إن لم يكن جميعها، رغم الهزيمة المريرة التي منيت بها الجيوش العربية في هذه الحرب.
ان يصبح دعم حركات التحرر الوطني العربية في مقدمة القضايا التي تجمع عليها الدول العربية في كافة المحافل الدولية، خاصة منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.

الشعوب العربية فقدت ثقتها تماما بمؤتمرات عربية تشارك فيها أنظمة حكم لا تمثلها

غير ان التوافق المبدئي على هذا الحد الأدنى للعمل العربي المشترك، الذي صمد بشكل أو بآخر حتى بداية سبعينيات القرن الماضي، بدأ يتآكل تدريجيا، بسبب عدم توافر الإرادة السياسية اللازمة لتطوير آليات العمل في جامعة الدول العربية، بما يتواءم مع التحولات التي طرأت على النظامين الإقليمي والدولي، وهي تحولات كانت تقضي بتحويل الجامعة من مجرد أداة للتنسيق بين دول مستقلة ذات سيادة، إلى أداة للتكامل بين دول ترتبط شعوبها بروابط تاريخية وثقافية متينة. فقد أصر كل نظام عربي على أن يتبنى من السياسات مع ما يتوافق فقط مع رؤيته الخاصة لأمنه ومصالحه الضيقة، التي قد لا تتطابق دائما وبالضرورة مع المصالح الوطنية العليا، بصرف النظر عن مدى اتساقها مع متطلبات الحد الأدنى من العمل العربي المشترك، ورغم أن الأمثلة على السياسات العربية الممعنة في قطريتها لا تحصى ولا تعد، وقد لا يستثنى منها نظام عربي واحد، إلا أن العمل العربي المشترك تلقى ضربتين كانت الأكثر إيلاما في تاريخه، وأسهمتا معا في الإجهاز التام عليه، الأولى: من الرئيس أنور السادات، حين قام في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977 بزيارة القدس المحتلة، والثانية: من الرئيس صدام حسين، حين أقدم في 2 أغسطس/آب على غزو الكويت واحتلالها وقرر ضمها للعراق بالقوة المسلحة.
زيارة القدس، التي أفضت إلى معاهدة سلام منفصلة بين مصر وإسرائيل تم التوقيع عليها بالفعل في مارس/آذار 1979، لم تشكل انتهاكا فقط لقرارات الجامعة العربية، التي حرمت كل تفاوض أو صلح منفرد مع إسرائيل، لكنها وجهت في الوقت نفسه ضربة قاصمة إلى مفهوم «المصير المشترك» الذي صنعه إدراك واضح بأن إسرائيل تشكل المصدر الرئيس لتهديد الأمن الوطني لكل دولة عربية على حدة، بالقدر نفسه الذي تشكل فيه مصدر التهديد الرئيسي للأمن القومي العربي ككل. لذا يمكن القول من دون تجاوز أن خروج مصر من معادلة الصراع العسكري مع إسرائيل، كان أول ثغرة في جدار الرفض العربي لإسرائيل، وفتح الباب أمام كل من يرغب من الدول لتبرير التعاون معها في مرحلة لاحقة، من دون اشتراط انسحابها أولا من الأراضي العربية المحتلة، الأمر الذي أغرى إسرائيل في النهاية في التمسك بهذه الأراضي والإصرار على عدم الانسحاب منها، والإسراع في وتيرة الاستيطان وضم كل ما تستطيع أن تهضمه منها.
أما غزو الكويت، الذي برر قيام تحالف عسكري أمريكي عربي لشن الحرب على العراق، بدعوى «تحرير الكويت»، وأفضى في النهاية إلى إقدام الولايات المتحدة على غزو واحتلال العراق عام 2003، فقد وجه ضربة قاصمة إلى «النظام الإقليمي العربي» وشوّه مفهوم «الأمن القومي العربي»، وساعد على ترسيخ مقولة مفادها إن إسرائيل لم تعد تشكل مصدر التهديد الوحيد، أو حتى الرئيسي لأمن الدول العربية، لأن التهديد قد يأتي من داخل النظام العربي نفسه. ومن المفارقة هنا أن تدمير العراق شكل البداية الحقيقية لتمدد النفوذ الإيراني داخل المنطقة العربية، على الرغم من أن بعض الدول العربية، التي شاركت في عملية تدمير العراق تستخدم تمدد النفوذ في المنطنقة كذريعة لتبرير تحالفها الحالي مع إسرائيل.
ربما يقول قائل إن جامعة الدول العربية صمدت وتجاوزت كارثتي زيارة القدس وغزو العراق، وأن القمم العربية لم تتوقف عن الانعقاد، غير أنه صمود شكلي في الواقع، خاصة أن مؤسسات الجامعة لم يطرأ عليها من التغيير ما قد يحول دون تكرار وقوع هذا النوع من الكوارث مستقبلا، لذا أظن أن الشعوب العربية فقدت ثقتها تماما بمؤتمرات عربية تشارك فيها أنظمة حكم لا تمثلها، وأصبحت مقتنعة تماما بأن مصير العمل العربي المشترك بات مرتبطا عضويا بنجاح عملية التحول الديمقراطي داخل الدول العربية.

حسن نافعة

كاتب وأكاديمي مصري