كيف تتشابه الذكورية في مجتمعاتنا مع العصر الجاهلي؟

5 يناير, 2019 - 12:13

برز دور العلوم الاجتماعية في العقود الأخيرة كأداة مهمة لفهم سلوك الشّعوب، وسلوك شعب ما تحددّه الثّقافة، التي تؤثّر على أنماط التّفكير والشّعور والتّصرّف لدى الأفراد، ومن الممكن تعريف الثّقافة على أنّها "مجموعة من الافتراضات الأساسيّة، والقيم، والتّوجهات الحياتيّة، والسّياسات، والطّرق، والتّصرفات، المشتركة بين مجموعة من الأفراد، والّتي توجّه -وليس بالضّرورة أن تحدّد- سلوك كل فرد، وتفسيراته لمعاني تصرّفات الآخرين". وتبني الثّقافةَ مجموعةٌ من العوامل منها الدّين، واللّغة، والتّاريخ، وطبيعة العمل، وجغرافيا المنطقة السّكنيّة.

 وتعتبر نظرية غيرت هوفستيد Geert Hofstede التي قدمها عام 1980 أبرز نظريّة لتحليل ودراسة الثّقافة، وتقوم على ستة أبعاد رئيسيّة؛ بعد المسافة، وتجنّب عدم التّيقّن، والفرديّة، والذّكورة، والتّوجّه طويل المدى، والتساهل، ولكلّ بعد من هذه الأبعاد مقياس، وتقبع كلّ مجموعة في مكان ما عليه.

وعرب الجاهلية هم إحدى هذه المجموعات، والجاهليّة مصطلح يطلق على العصر الذي عاش فيه العرب في الجّزيرة العربيّة، وبعض المناطق في العراق والشّام، لمدّة تراوح 150 عامًا، وتنتهي بظهور الإسلام، وقد اعتنى كثير من الدّارسين من مختلف أنحاء العالم وعبر عصور مختلفة بحضارة العرب قبل الإسلام وأسلوب حياتهم، لما لها من أهميّة تاريخية ودينيّة كبيرة، إذ أنّها تمثّل البيئة التي ظهر فيها الدّين الإسلامي، والّذي يُعدّ من أكثر الدّيانات اتّباعًا، وهو أكثر الدّيانات نموًّا، وقد كان الشّعر هو أهمّ مفتاح دراسة هذه الحضارة.

الذكورة 

تتكوّن المجتمعات الإنسانيّة من جنسين مختلفين، هما الذّكور والإناث، والاختلافات بين الذّكور والإناث منها المطلق، والإحصائي، والنّسبي، وهناك اختلاف في الأدوار بين الذّكور والإناث، وهذا الاختلاف نسبي، بمعنى أنّ يتمّ فرض مهامّ وصفات معيّنة للذّكور، وأخرى للإناث، في مجتمع ما، وتختلف هذه المهامّ والصّفات من مجتمع لآخر.

تعتبر بعض السلوكيّات أنثويّة وبعضها ذكوريّة، ومعيار التّحديد هو الثّقافة، وتحديدًا بُعد الذّكورة، فكلّما زادت الفجوة في الأدوار المتوقّعة بين الذّكور والإناث، كلّما زادت درجة المجموعة على مقياس بُعد الذّكورة، فمثلًا يعمل الرّجل خارج المنزل والمرأة داخله، فهذا مجتمع عالي الذّكورة، بينما إذا كان المتوقّع أن يقوم الذّكور والإناث بمهامٍ مشتركة، فإنّ درجة الذّكورة تكون منخفضة، وعليه من الممكن تعريف بُعد الذّكورة على أنّه حجم الفجوة في الأدوار بين الذّكور والإناث، وتبدأ تأثيرات الذّكورة من الأسرة.

تأثير الذّكورة على الأسرة

في الأسر المنتمية لمجتمعات عالية الذّكورة، تكون الأدوار مختلفة تمامًا بين الأب والأمّ، حيث يعمل الأب خارج المنزل، وتعمل الأمّ داخله، ونتيجةً لهذا الاختلاف في الأدوار والمسؤوليّات، يتّصف الآباء بسمات معيّنة، فمسؤوليّة حماية الأسرة مثلًا تتسبّب في اتّصافهم بالحزم، والعصبيّة، والغلظة، ومسؤوليّة إعالة الأسرة تجعلهم يسعون نحو الكسب المادي، ويهتمّون بالحقائق أكثر من العواطف، أمّا الأمّهات فمسؤوليّاتها داخل المنزل تزيد من اهتمامها بالبحث عن الاستقرار، والحصول على علاقات أفضل مع النّاس، ودورها في التربية ينمّي مسؤوليّاتها العاطفيّة -بالرغم من اتّسامها بالعصبيّة والحزم في أحيان كثيرة أيضًا- بالإضافة لطاعتها المطلقة لزوجها، والأبناء بينهم فجوة أيضًا، حيث تختلف الأنثى عن الذّكر في المسؤوليّات، بل وحتّى التّقدير الأسري، إذ يُقدّر الابن أكثر من البنت.

أمّا في الأسر منخفضة الذّكورة، فإنّ الأدوار متماثلة بين الأب والأمّ، فيعمل الاثنان داخل المنزل وخارجه، ويتّصفون بصفات متشابهة تقريبًا نتيجةً لتشابه الأدوار، فالحزم والحنان صفة الإثنين في أوقات مختلفة عند اقتضاء الأمر، ومستوى العصبيّة والغلظة في التّعامل قليل، ويطغى عليهما الاعتدال، والبحث عن العلاقات الجيّدة والاستقرار مهمّان، ولا تصنّف الأمّ على أنّها تابعة للأب، ولا يتوقّع منها الانقياد الأعمى له، كذلك الأدوار بين البنات والأولاد متشابهة، والتّقدير الأسري لهما متساوٍ.

الأسرة العربيّة الجاهليّة على مقياس الذّكورة

وفي نظرة متفحّصة لبعد الذّكورة في الأسرة العربيّة الجاهليّة بناءً على الّذي وصلنا من أشعارهم، نجد أنّ بعد الذّكورة مرتفع جدًّا، فالرّجل يتّخذ القرارات الخاصّة بالأسرة، وتتبعه زوجته. وصف الشّنفرى الأزديّ نفسه بأنّه ليس ذاك الجبان الكسول الملازم لزوجته، وافتخر بأنّه لا يستشيرها في ما يفعل، فالرّأي في الأسرة للزّوج فقط، قال الشّنفرى:

ولستُ بمهيافٍ يُعَشِّي سَوامَهُ
مُجَدَّعَةً سُقبانُها وهي بُهَّلُ

ولا جُبَّأٍ أكهًى مُرِبٍّ بعرسِهِ
يُطالعها في شأنِه كيفَ يفعلُ

أمّا الزوجة، فمهمّتها الإنجاب، والعناية بالأولاد، فعملها مقتصر على شؤون البيت الداخليّة، وقياسًا على هذا، فإنّ الزوجة الّتي لا تنجب تُعدّ أقلّ شأنًا، قال عبيد بن الأبرص:

أَعاقِرٌ مِثلُ ذاتِ رحمٍ
أَم غَانِمٌ مِثلُ مَن يَخيبُ
ومن مهمّات المرأة أيضًا العناية والتّطبيب، لما تحتاجه من متطلّبات عاطفيّة. كان أوس بن حجر التّميميّ قد سقط عن ناقة، فقامت حليمة بنت فَضَالة بن كَلَدة بالاعتناء به، فقال فيها:

لَعَمْرُكَ ما مَلّتْ ثَوَاءَ ثَوِيِّها
حليمةُ إذْ ألقى مراسيَ مُقْعَدِ

ولكنْ تَلَقّتْ باليدينِ ضمانَتي
وحلّ بشرجٍ مِ القبائلِ عُودّي

ولمْ تُلههِا تلكَ التّكاليفُ إنّهَا
كما شئتَ من أكرومةٍ وتخرُّدِ
ومن المستغرب، وغير المألوف ولا المقبول رؤية رجل يقوم بأعمال منزليّة. رأت زوجة الهُذلول بن كعب العَنُبَريّ زوجها يطحن، فضربت صدرها، وقالت: "أهذا زوجي!"، فردّ عليها، وبرّر لها أنه خادم ضيفه، ولكنّه فارس مقدام، قال الهُذلول:

تقولُ ودقّتْ صدرَها بيمِينِها
أَبَعلي هذا بالرَّحى المُتقاعسُ

فقلتُ لها لا تَعجَلي وتَبَيَّنِي
فِعالي إذا التفّتْ عليَّ الفوارسُ

ألستُ أردُّ القِرْنَ يركبُ رَدْعَهُ
وفيهِ سِنانٌ ذو غِرارَينِ يابسُ

وأحتملُ الأَوْقَ الثَّقيلَ وأَمْتري
حُلوفَ المنايا حينَ فرَّ المُغامِسُ

وأَقْرِي الهُمُومَ الطّارِقاتِ حَزَامَةً
إذا كثُرَتْ للطّارِقاتِ الوَسَاوسُ

إذا خامَ أقوامٌ تَقَحَّمْتُ غَمْرَةً
يهابُ حُمَيّاها الألدُّ المُداعِسُ

لعَمْرُ أبيك الخيْرَ إنّي لخادمٌ
لِضَيْفِي وإنّي إنْ ركبتُ لفارسُ

وإنَّي لأشرِي الحَمْدَ أبْغِي رِباحَهُ
وأَتْرُك قِرْني وهُوَ خزْيَانُ ناعِسُ

وحماية نساء الأسرة هي مهمّة أخرى لرجالها، فالرّجل هو القويّ، والمرأة تابعة له. كانت ليلى بنت لكيز -المعروفة بليلى العفيفة- اختُطِفت في فارس، وكان ابن كسرى يحاول أن ينال مراده منها، فاستنجدت بالبرّاق بن روحان البكريّ -خطيبها وابن عمّها- وبإخوتها، قالت ليلى العفيفة:

ليتَ للبرّاق عينًا فترى
ما أقاسي من بلاءٍ وعنا
يا كليبًا يا عقيلًا إخوتي
يا جُنيدًا ساعدوني بالبُكا
عُذبتْ أختكمُ يا ويلكمْ
بعذابِ النُّكر صبحًا ومسا
يكذبُ الأعجمُ ما يقربني
ومعي بعضُ حساساتِ الحيا

والّذي لا يستطيع حماية نسائه، يستحق أن يُعيّر بذلك، قالت سلمى بن المُخَلّف تعيّر مالك بن كعب ـالمُلقَّب بجوّاب- والطُّفيل بن مالك لهروبهما وتركهما النّساء يوم النِّسار:

لحى الإلهُ أبا ليلى بفَرّتِهِ
يوم النِّسارِ وقُنْبَ العير جوّابا

كيف الفخار وقد كانت بمعتركٍ
يوم النِّسار بنو ذبيان أربابا

لم تمنعوا القومَ إنْ أشْلَوْا سوامَكُمُ
ولا النّساء وكان القوم أحرابا

وفي وصايا الآباء لأبنائهم الذّكور الحثّ على اظهار القوّة، والمشاركة في الحرب، والتّجهيز لها، وأخذها على العاتق، قال ذو الإصبع العدوانيّ يوصي ابنه أسيد:

وإذا القُرُومُ تخاطَرتْ
يومًا وأرعَدَتِ الخَصِيلا

فاهصِرْ كهَصْرِ اللّيثِ
خَضَّبَ مِن فَريستهِ التَّلِيلا

وانزِلْ إلى الهيجَا إذا
أبطالُها كَرِهوا النّزولا

وإذا دُعِيتَ إلى المُهِمّ
فكن لفَادِحِهِ حَمُولا

وذكر الأعشى ميمون وصايا أبيه له، ومنها أهميّة القتال عند الحاجة له، قال الأعشى:

إنّ الأعَزّ أبَانَا كَانَ قَالَ لَنَا
أوصيكمُ بثلاثٍ إنّني تلفُ

الضّيْفُ أُوصِيكُمُ بالضّيْفِ إنّ لَهُ
حَقًّا عليّ فَأُعْطِيهِ وَأعْتَرِفُ

وَالجَارُ أُوصِيكُمُ بِالجَارِ إنّ لَهُ
يومًا منَ الدّهرِ يَثنيهِ فينصرفُ

وَقاتِلوا القَوْمَ إنّ القَتْلَ مَكْرُمَةٌ
إذا تَلَوّى بِكفِّ المُعْصِمِ العُرُفُ

Mohannad Amireh السيد

مهتم في الثقافات واللغات والشعر العربي.