
لم يعد هنالك في الحياة العامة العربية الكثير مما يوجب الأمل. صار منتهى أملنا، سياسيّا، أن تنجو أقطارنا من خطر الزوال (أي أن تبقى كياناتنا القطرية الهزيلة المرتعدة قائمة، أيّا كانت حالها، فلا تتجزأ ولا تتفتت). أمل لا يكاد يبلغ درجة الصفر في سلّم الآمال، ولكنه يبدو، مع ذلك، بعيد المنال. إذ ما تنفك عوامل التقسيم تنمو وتتفاعل في المشرق، وحتى في المغرب. أما في الثقافة، فقد صار منتهى أملنا ألاّ نفقد الذاكرة فقدا تاما (أي أن يكون ما نحن مصابون به بالفعل فقدا جزئيا فقط، فلا يتحول نسيانا أو خرفا مطلقا)، وأن تثبت مؤسساتنا الثقافية بعض الثبات، بعد أن تكاثرت عندنا المؤسسات والمبادرات التي لا تصمد لامتحان الزمن.
ولهذا فإن احتفال مجلة «العربي» الثقافية الكويتية هذا الشهر بعيد ميلادها الستين يبدو أمرا باعثا على بعض الاطمئنان، من حيث أنه معاكس للوضع العربي العام المحكوم بقانون التشرذم القومي والتجهيل الثقافي. فقد ظلت الكويت تطل على قراء كل بلد عربي، كل شهر، بمطبوعتين تفعمان القلوب سرورا: مجلة العربي، وكتاب سلسلة عالم المعرفة. وكان الكتاب والمجلة، ولا يزالان، يوزعان بسعر رمزي يجعلهما في متناول كل قارىء حيثما كان في موريتانيا أو تونس أو مصر أو السودان، الخ.
بدأت أقرأ مجلة العربي أواخر السبعينيات عندما كان يرأس تحريرها الكاتب المتألق أحمد بهاء الدين. ولا أزال أذكر من إصدارات سلسلة عالم المعرفة، قبل أربعة عقود، كتاب «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» لإحسان عباس، و«اتجاهات نظرية في علم الاجتماع» لعبد الباسط عبد المعطي، و«الحب في التراث العربي» لمحمد حسن عبد الله. أما الكتاب الذي أهمّني أكثر من سواه، فهو «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي» للمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري. ومما أذكره، لما كنا في السنة الثالثة من التعليم الثانوي، أن أستاذ العربية ارتأى أن يدرّسنا نصا غير مدرج في الكتاب المدرسي، فتخيّر لنا افتتاحية بقلم مؤسس مجلة العربي العالم والأديب أحمد زكي عاكف.
لم يعد هنالك في الحياة العامة العربية الكثير مما يوجب الأمل. صار منتهى أملنا، سياسيّا، أن تنجو أقطارنا من خطر الزوال (أي أن تبقى كياناتنا القطرية الهزيلة المرتعدة قائمة، أيّا كانت حالها، فلا تتجزأ ولا تتفتت)
ولا شك أن الافتتاحية، التي كانت بعنوان «أمية المتعلمين»، قد أكسبت بعضنا مناعة باكرة ضد الداء المتفشي عندنا ـ داء توهّم أن طلب العلم ينتهي بالحصول على الشهادة والوظيفة، وأن القراءة أو البحث عقوبة لا تنزل إلا بفئة قليلة من المعذبين في الأرض: التلاميذ والطلاب.
ومنذئذ بدأت الصحبة واتصلت، بحيث يندر الآن أن أزور بلدا عربيا دون أن تكون مجلة العربي وكتاب عالم المعرفة من ضمن ما أقتنيه من المطبوعات العربية. وهكذا حصلت الشهر الماضي، أثناء زيارة إلى الأردن، على كتاب «الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية في الدول العربية»، وعلى عدد المجلة المتضمن كالعادة مقالات كثيرة قيّمة كان بينها مقال لافت لمهدي أحمد الدجاني عن الرد الثقافي على وعد بلفور.
رجعت إلى الأرشيف، فوجدت أنه قد كان بين كتّاب العدد الأول من مجلة العربي، في كانون الأول/ديسمبر 1958، أسماء من طراز عباس محمود العقاد، ومحمود تيمور، وفيليب حتي. أما الموسوعي أحمد زكي، فقد نشر عدة مقالات كان أحدها عن النفط والذرّة، بينما حمل آخر عنوان «التطور والثورة: جفرسن يمتدح الثورة الفرنسية».
وبقيت العربي على مدى الأعوام تستكتب أعلاما مثل ميخائيل نعيمة، ونجيب محفوظ، وشوقي ضيف، وأحمد حسن الزيات، وزكي نجيب محمود، وقسطنطين زريق… أما من أطرف ما قرأت في الأرشيف، فمقال لرئيس التحرير السابق محمد الرميحي، في عدد آذار/مارس1989، بعنوان «تاريخ المستقبل». ومما يذكره المقال، الذي يطرح قضية علم التخطيط والاستشراف، أن مجلة الهلال القاهرية نشرت عام 1950 عددا خاصا عن عام ألفين تضمّن مقالا لفكري أباظة عبّر فيه عن الأمل في قيام «الاتحاد المصري العربي الذي يضم مصروالسودان وأوغندا وأريتريا والحبشة وشمال أفريقيا والحجاز وسوريا ولبنان وشرق الأردن واليمن والعراق». ولأن موجبات الأمل في المستقبل كانت قائمة بالفعل آنذاك، فقد تنبأ بأن ينتصر «هذا الاتحاد العظيم» على الاتحاد السوفييتي بفضل الأسلحة المتطورة التي سيخترعها العلماء المصريون.
٭ كاتب تونسي