و ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
"محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي (1245 - 1322 هـ / 1904 - 1829) معروف كذلك باسم ولد التلاميد. هو لغوي موريتاني ذاع صيته في عصره. ولد في ضواحي جونابه و أشرم من ولايتي لبراكنه و تكانت بموريتانيا وانتقل إلى المشرق فأقام بمصر ورحل إلى مكة. كان علامة عصره في اللغة والأدب، كما كان شاعرا، أموي النسب، اشتهر والده بالتلاميد "تصحيف التلاميذ" فعرف بابن التلاميد.
شد الرحال إلى الشرق وعرج في طريقه على مدينة "تيندوف" حيث لقي ابن بلعمش الجكني ودرس عليه الحديث قال صاحب كتاب الوسيط عنه: وكان الشريف "أمير مكة" يحرش بينه وبين علماء مكة حتى حصلت البغضاء التامة، انتدبته حكومة الأستانة - أيام السلطان عبد الحميد الثاني - للسفر إلى إسبانيا والاطلاع على ما فيها من المخطوطات العربية، فقام بذلك.
رحل إلى مصر ونزل عند نقيب أشرافها محمد توفيق البكري، فبالغ في إكرامه واستعان به في تأليف كتابه "أراجيز العرب"، ثم طبع الكتاب منسوبا إلى البكري وحده فغضب الشنقيطي وفارقه، ووصل الخلاف إلى القضاء. اتصل بالشيخ محمد عبده فسعى له بمرتب من الأوقاف فاستقر في القاهرة. وقد ذكره طه حسين في كتابه "الأيام" باسم الشيخ الشنقيطي".
فإذا لم يكن معلوم عن الرجل إلا ما تقدم من تلخيص تنقالته الموسوعات الألكترونية الكبيرة وذات الصيت الكبير على الشبكة العنكبوتية فإن فيه للباحثين بالغ المحفز على البحث عن حياته العلمية للاطلاع على آثار عطائه الثر، كما أنه يحوي وافر الأدلة على مكانة الشيخ العلمية و تفرده بعلوم اللغة العربية.
و إن ما لم يحظ به لحد الساعة من الاهتمام الأكاديمي و من البحثي لإعادة الاعتبار الذي يناسب قدره يعود بالأساس إلى ضعف روح البحث لدى العاملين في بلده على حقل تاريخ الأشخاص الذين تركوا بصماتهم القوية على حياة عصرهم العلمية أو الأدبية أو السياسية أو العسكرية و نحتوا للبلد مكانة بين البلدان التي تفاخر بنوابغها و أفذاذها من صناع المكانة العلمية و الحظوة في التميز الإشعاعي. فالعلامة ولد التلاميد قد ترك لنفسه و لبلده الذي قدم منه إلى المشرق صيتا مدويا في محافل العلم و جامعاته و جوامعه و ذكرا بارزا على ألسنة كبار عصره من العلماء و الأدباء و السياسيين و في صحف مصر العتيدة التي كانت تصدر يومها و يتحفها بمقالات أدبية رفيعة من إنتاج "الشناقطة" و من إبداعاته الشخصية. و ليس هذا وحده بل كان حضور الرجل الذي يوصف أحيانا بالمزاحم و المفرط الثقة في النفس و المشمئز من كل أمر أو موقف تشتم فيه رائحة مجافاة الحقيقة أو النفاق أو إنكار الجهد أو تحويل أصله أو تحوير فيه.
دكاترة بكل الدرجات و أكادميون و باحثون كثر و أساتذة أجلاء و مهتمون جاءوا من كل فج عميق و معهد معلوم مدرسة عليا و كل جامعات البلد أنعشوا طيلة يومين متتاليين في نواكشوط ندوة صاخبة بمناسبة مئوية اللغوي الفذ و العالم الجليل محمد محمود بن أحمد بن محمد الملقب ولد التلاميد قدمت خلالها عروض كثيرة تناولت زوايا مختلفة من حياة الرجل أشفعت بمداخلات من جمهور مختلف المشارب ضم بلغاء و خطباء و ضليعين في التاريخ و علم التوثيق صَبت جميعُها في ذات الاتجاهات مصححة و مكملة تارة و محتجة على التقصير في الاهتمام بالجمع عن حياة الرجل و الاهتمام باستعادة مكتبته الضخمة في القاهرة تارة أخرى.
و بقي اللافت للانتباه في آخر المطاف و بعدما أسدل الستار أنه طيلة الاحتفالية بمئوية الرجل و ما أبانت عنه من قدرة المحاضرين البلاغية و من بعدهم المعقبين و المتدخلين و الشعراء و المهتمين و شيعة الرجل و مؤرخي البلد و جامعييه و أكادمييه و باحثيه و المهتمين فيه بالجمع عن الأعلام و الرموز لم يقدموا للمهتمين و الطلاب الحاضرين و الباحثين في بداية المشوار البحثي العلمي أية مؤلفات أو دراسات أو أطروحات أو بحوث و لو كانت في مستوى الإعداد و التنقيح و الإثراء لدعم هذا الاهتمام الذي أعدت له ندوة و دعيت الشخصيات و ووسائل الإعلام المرئي و الالكتروني و الورقي للتغطية و التوثيق.
فهل نال الرجل حقه من الاهتمام أم أننا ما زلنا كما نحن لا نولي البحث أهمية و لا نعترف بالعظماء منا و الرموز فينا و الأفذاذ الذين يهاجرون عن روتين نسيان و إنكار أهل البلد و ظلمهم إلى آفاق أكثر نزاهة فكرية و أحرص على تلقف أهل المعرفة لصالحهم، إلا أن نتحايل على التاريخ و نغالط أنفسنا فنوهم بأننا نهتم و نحن في العمق لا نبالي عمدا تارة و حسدا من عند أنفسنا تارة أخرى، أم أننا فقط أكثر اداعئية و أقل فاعلية في واقع الحال الذي يعكسه ضعف الإنتاج الفكري و غياب الفعل العلمي ؟
و أما مصر فقد ذكره فيها أعلامها من علماء و أدباء - حتى قال فيه طه حسين مقولته و شهادته البليغة المدوية "... بأنهم لم يروا ضريبا للشيخ الشنقيطي.." - و نشروا معارفه و استفادوا منها إلى أن توفي على أرضهم فحفظوا مكتبته و أطلقوا على أحد شوارع القاهرة اسمه عرفانا و تقديرا و امتنانا و تخليدا. فما عسانا نفعل و نحن من نحن؟