تشكل الدعوة التي وجهها الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، لفرنسا من أجل تقديم الاعتذار للدول التي كانت ضحية لجرائمها الاستعمارية على غرار الجزائر، تحت قبة نشاط هيئة عابرة للقارات، هزة قوية لسمعة دولة تدعي الدفاع عن قيم الحرية والأخوة والمساواة، من شأنها أن تضعف قبضة الدولة الفرنسية على المستعمرات التي لا تزال خاضعة لنفوذها وسطوتها.
وتكمن أهمية هذه العبارات المزلزلة في أنها أُطلقت خلال الاجتماع الوزاري للمكتب التنسيقي لحركة عدم الانحياز في العاصمة الأذربيجانية باكو، بحضور ممثلين من دول إفريقية وآسيوية ولاتينو أمريكية، التي عانت على مدار قرون من الاستعمار الأوروبي وعلى وجه الخصوص الفرنسي، الذي يعتبر الأبشع.
ولا تزال العقلية الكولونيالية تسيطر على صانع القرار في فرنسا، فالكثير من الدول الإفريقية لا تزال رهينة علاقات مشبوهة بين النخب الحاكمة فيها وبين باريس، وإن حاولت هذه الأخيرة بلورة مشروع نيو كولونيالي يستهدف مسح الماضي الأسود للاستعمار التقليدي، بعدما ثار الأفارقة ضد الوجود الفرنسي في بعض الدول الخاضعة لعملة الفرنك الإفريقي (فرانك سيافا)، مثل مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو مؤخرا.
وتأتي كلمات الرئيس الأذربيجاني في ظرف خاص بالنسبة للعلاقة بين الجزائر وفرنسا، التي تشكل محور أي خطاب عن جرائم الاستعمار في المحافل الدولية بالنظر للنقاش الذي يطبع هذا الملف منذ عقود، وكثيرا ما تسبب في تسميم العلاقات بين الجزائر وباريس، بسبب رفض هذه الأخيرة النظر إلى مرآة تاريخها الملطخ بدماء ضحاياها وجرائم جيشها.
وعندما يتحدث الرئيس الهام علييف عن جرائم فرنسا في العالم، فهو ينطلق من الآلام التي عانت منها بلاده بسبب سياسات فرنسا الداعمة للاستعمار حيثما وجد، والمواقف ليست بعيدة، فقبل نحو سنتين فقط كانت فرنسا حاضرة بطريقة أو بأخرى في حرب التحرير الأذربيجانية ضد أرمينيا التوسعية.
ويتذكر الجميع كيف حاولت باريس إفشال مساعي أذربيجان من أجل استرجاع أراضيها المغتصبة في إقليم ناغورنو كاراباخ من قبل الأرمينيين، فبعد فشلها في وقف الدعم التركي للأذربيجانيين أمام إصرار كبير من قبل الرئيس رجب الطيب أردوغان على توفير كل ما تحتاجه باكو من دعم مادي ومعنوي، لجأت باريس إلى حشد الدول الغربية لدعم بقاء الاحتلال الأرمني في الأقاليم الأذربيجانية، وهو المعطى الذي كان وراء استهداف الهام علييف للاستعمار الفرنسي في خطابه أمام ممثلي الدول الأعضاء في منظمة عدم الانحياز، التي تشكلت وترعرعت في خضم تنامي الوعي التحرري من الاستعمار في إفريقيا واسيا وامريكا اللاتينية.
وإن كانت جهود التحرر من الاستعمار الفرنسي قد تكللت في غالبيتها بالنجاح، فإن الرهان يتمحور حاليا حول محاربة الاستعمار في شكله الجديد، والمتمثل في التبعية ونهب ثروات الشعوب ولاسيما في القارة الإفريقية، حيث تركة الاستعمار الفرنسي التي لا تزال تمتص دماء أبناء القارة السمراء، وهو المعطى الذي يسائل جرائم فرنسا الاستعمارية بعد قرون من العربدة والخروج عن القانون والأعراف الدولية.
ما صدر عن الرئيس الأذربيجاني يعتبر صرخة أخرى في وجه فرنسا الاستعمارية، ودعوة من دولة تبدو بعيدة ولكن يهم قادتها أن يروا الجلاد وهو يعتذر للضحية، لكن يبدو أن فرنسا غير قادرة على مواجهة غيها والاعتراف بمسؤوليتها فيما سببته من آلام لعشرات الملايين من الشعوب في العالم، والشعب الجزائري على وجه الخصوص، باعتباره ضحى بأزيد من سبعة ملايين شهيد على مدار 132 سنة من استعمار استيطاني بغيض.
والغريب في أمر الساسة الفرنسيين أنهم أجبروا ألمانيا على الاعتذار لهم بسبب احتلال ألمانيا النازية لبلادهم في الحرب العالمية الثانية لبضع سنوات فقط، لكنهم يتمنعون في الاعتراف بجرائمهم والاعتذار للجزائر عن أزيد من قرن من الزمن، شهد أبشع جرائم الاحتلال، من إبادة وتفقير وتهجير وتشريد، في موقف عجز عن فهمه حتى بعض الفرنسيين.