حين أفل نجم حابه ولد محمد فال..
كُلُّ نجمٍ سَيَعتَريه أفولُ***وَقُصارى سفر البَقاء القفولُ
لاحقٌ إِثر سابقٍ واللَيالي***بالمَقادير راحلاتٌ نُزولُ
تَفْتَأ الليالي ترمينا بِمُحْزن الأخبار .
قبل أيام قليلة نَعَى إلي شقيقي سيدي محمد حفظه الله وأنا على جناح سفر أحد فرسان هذا البلد وعظمائه الذين خدموه بعزم وتضحية وإخلاص وأحد أركان بيتنا الخاص ، نزل من فوق سريره بهدوء وأَوْصَد الباب خلفه داخلا عالم الألطاف والرحمات تُشَيِعُهُ حكايات العز والصدق والكرم والشجاعة.
حابه ولد محمد فال أفقتُ وأنا أعرف هذا الاسم ، ورأيته أول مرة وأنا طفل صغير بعد عودته من منفاه منتصف الثمانينات عندما جاءنا زائرا ومسلما بعد انكشاف غمته.
عُفي عنه وجماعته بعد أن حُكِمَ عليهم بأحكام قاسية مارس 1981 ،كان نصيبه منها: الإعدام ومصادرة الأموال ،نجا من الأولى لغيابه ومسه لظى الثانية :صُودِرت العقارات واسْتُحْوِذَ على السيولة وبيعت العروض أمام متاجره في مَشَاهِدٍ هوليودية ما تزال ذاكرة انواكشوط تختزنها .
في إحدى ضحوات الگيطنة الهادئة بعد عودته ذلك العام دخلت سيارة لاندروفير لعلها 110 مساكننا بوادي امحيرث نزل منها رجال لا أذكر عددهم.
التقتهم سيدة تعمل معنا قبل جلوسهم بوابل من الزغاريد وفي ظرف قصير توارد رجال إلى بيتنا وهم يطلقون أعيرة نارية من بنادقهم احتفاء بالضيوف الجدد .
بدا الناس في المجيئ بشكل مضطرد مع زوال ذلك اليوم فرادى وجماعات.
تأتي الجماعة ممثلة لحيها مهنئة ومباركة القدوم وينشد شعراؤها القصائد ويطلق فرسانها أعيرة نارية، ففي امحيرث تثمر القرائح وقطع السلاح تماما كما يثمر النخيل!
أقام معنا حابه يومين أوثلاثة لم تسكت بها المدافع ولا الطبول في خروج واضح على متن النص المنظم لما ينبغي وما لا ينبغي في بيوت آل الأعمش!
فمن يكون حابه الذي استحق كل هذا الاحتفاء والفرح وما حكايته ؟
ولد محمد الحافظ (حابه) ولد محمد فال منتصف ثلاثينات القرن الماضي عاش صِباه وطفولته الأولى بين شنقيط وأوديته في بيت رئاسة وسيادة فقد والديه قبل البلوغ, ساقته هِمم الرجال ومطامحهم إلى هَجْر الديار وحَطّت به عصا التِسيار جنوب نهر صنهاجة الوجهة الأكثر إغراء في تلك الأيام ،فشمر عن ساعد الجد والاجتهاد مع ما منحه الله من توفيق ، كان من القلة التي فهمت الميكانيزمات المحركة للتجارة في نسختها الجديدة على سكان الصحراء ،ربط علاقات قوية مبنية على الثقة والإعجاب مع أصحاب المخازن و الشركات والمؤسسات المالية فرسم في وقت وجيز معالم خریطة إمبراطوريته التجارية الكبيرة ،طلب منه الرئيس السابق الأستاذ المختار ولد داداه المشاركة في بناء الدولة الفتية فلبى نداء الوطن وأسس شركات وطنية متخصصة في البناء،والمواد الغذائية،والتأثيث..،وشيد في قلب العاصمة فندق شنقيط أول فندق خاص بالبلد .
وفي مفارقة غريبة كان حابه بما قدّمه وبذله من أدوار شريكا اقتصاديا مهما لنظام ولد داده مع أنه لم يكن راضيا عن الحرب في الصحراء ولم يؤثر عنه كبير اهتمام بالسياسة ، الصورة التي ستُعْكس تماما بعد استلام العسكريين السلطة، فقد كتب غداة العاشر يوليو رسالة يحذر فيها قادة موريتانيا الجدد من خطورة ما أقدموا عليه، معلنا فيها تجميد نشاطاته التجارية مع الدولة طالبا من شركائه الخصوصيين موافاته بعنوانه الجديد بداكار لتصفية معاملاتهم معه .
ازدادت الشقة اتساعا بين الرجل والعسكر وكان الإعلان عن ميلاد تنظيم AMD بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير .
خاض حابه ولد محمد فال في منافيه مناوءته للنظام ، من محور :داكار -الرباط - -باريس حيث التقى بأوجه سياسية وعسكرية وفكرية قاسمته همّه وآراءه .
لم يَحِد حابه رحمه الله بعد سقوط نظام هيدالة وعودته لأرض الوطن عن دعواته لإقامة دولة عدل ومؤسسات تضمن الحقوق وتصون الحريات محذرا من خطورة ما رآه من انحدار في المنظومة الأخلاقية للمجتمع وشيوع التزلف والارتزاق طمعا في حظوة أو تعيين ،منوها بدور التعليم ومحوريته في التنمية وكثيرا ما قال إن دولة تخرج فيها الأسرة لتغش لابنها في الامتحانات دولة يخاف على مستقبلها .
دعا إلى صون الوحدة الوطنية ورأب جراح الماضي ونبذ القبلية والجهوية والشرائحية وصون ثروات البلد وعدم تبديدها وحين رآى الوضع ينهار بشكل متسارع مؤذنا بانفراط العقد إن ظل الحال على ما هو عليه عجم عیدانه والتفت إلى غريمه وطَالِبِ رأسه بالأمس التفاتة كبير ورئيس وقديما قيل:
"وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا" وأقنعه -وآخرين - بخوض غمار انتخابات 2003 الرئاسية ،كانوا متأكدين أنها لن تكون الضربة القاضية لكنهم بما أعدوا لها عرفوا آنها ستكون مربكة وعظيمة الأثر وهو ما كان بالفعل.
جمعوا حول الرجل من الطيف السياسي ومن متخاصمي الأمس ما لم يجتمع من قبل:كادحین ،قومیین ،إسلاميين ، شخصیات وطنیة مستقلة ،عسكريين متقاعدين،شباب ,نساء...
كتب ولد محمد فال في مناهضة نظام ولد الطايع صفحات مشرقة وضحى تضحيات جسام من حريته ووقته وماله...
كان بيت الرجل مثابة لرجال الفكر والسياسة يناقشون فيه هموم الوطن والتحديات التي تواجهه وتنثر فيه درر الآراء الحصيفة والتحاليل العميقة. وإليهم تتوارد فيه الأخبار من كل مكان .
كان حابه موسوعيا في فهمه للأشياء حاضرها وماضيها يعرف الرجال وطرق تفكيرهم والحركات السياسية ومصادر تمويلها وحكومات العالم الثالث وكيف، ومن أين تُدار ،أَهّلَهُ لذلك سعة اطلاعه وغنى تجربته وشبكة علاقات واسعة أقامها داخل البلد وخارجه.
عُرِف حابه رحمه الله أيضا بعذوبة المجلس وصفاء المؤانسة والبراعة في النكات وتحميلها رسائل عميقة وصدق الفراسة .
جاءه مرة رجل يتحدث بحماس عن موضوع لا يستحق كل ذلك الاندفاع، فسأله متى كان آخر عهدك بفلان؟ فأجابه الرجل كنت في بيته اليوم!
كنت جالسا معه حين جيء إليه بِرَاعٍ طلبه ليرسله في بعض مواشيه إن لمس فيه القدرة على تلك المهمة ،فخاطبه :سأرميك بثلاثة ألغاز في خبر الماشية إن أجبتها أرسلتك إلى العمل ،ضحك الراعي وقبل العرض ،...حّل اثنين منهما وأعانه هو على حل الثالث وطلب من أحد جلسائه تجهيزه وإرساله .
لا يملك مُجالس حابه خيارا غير الإعجاب به واحترامه والحنين إلى لقائه إن فارقه!
فوق ذلك كان حابة كريم الكف متواضعا بسيطا في مظهره قوي الحضور حاد الذكاء
كل أخباره رحمه الله تكتب بماء الذهب ،رفع الله قدره وأكرم مثواه وبارك في أهل بيته و أخلفه فيهم بخير إنه ولي ذلك والقادر عليه.
محمد الأمين ولد بلعمش