بعد العقوبات التي فرضت عليها من قبل جيرانها في الغرب الأفريقي، الممثلين في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، ترمي مالي بثقلها في موريتانيا، حيث أجرى وفد وزاري مباحثات مكثفة ولقاءات متعددة مع كبار المسؤولين الموريتانيين، كما استقبله رئيس الجمهورية في القصر الرئاسي، وأجرى الوفد الوزاري جلسة عمل مع نظرائه الموريتانيين.
وأكد وزير الخارجية المالي -في تصريح له بعد اللقاء- أن بلاده تعوّل على موريتانيا في مثل هذه الظروف لدعمها ومؤازرتها، كما صرح بأن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أكد له التزام موريتانيا بالعمل على تسوية المشاكل والصعوبات التي تواجهها مالي.
ويعتقد كثير من المراقبين أن حضور الدور الدبلوماسي في المباحثات وما يمكن أن تلعبه موريتانيا بوصفها وسيطا في الأزمة لن يكون بمعزل عن بحث الآليات الكفيلة بتزويد الأسواق المالية بالمواد الغذائية الأساسية عن طريق موانئ موريتانيا، إضافة إلى الدعم الذي يمكن لموريتانيا أن تقدمه للتخفيف من تداعيات الأزمة.
فمن بين مجموعة دول الساحل الخمس، فإن موريتانيا الوحيدة التي تملك إطلالة على البحر عن طريق ميناء الصداقة، المحطة الرئيسية في المنطقة، والرئة الاقتصادية ليس لموريتانيا فحسب بل لمالي والنيجر أيضا.
وينظر الماليون إلى الموانئ الموريتانية بوصفها منفذا بحريا مهما لكسر حصار دول "الإيكواس" عليها، خاصة السنغال وكوت ديفوار؛ فمالي كانت تصدر 400 ألف طن من المانغو، وأكثر من مليون طن من القطن، وتستورد مليون طن متري من المشتقات النفطية عبر الموانئ الإيفوارية والسنغالية.
فهل لدى موريتانيا القدرة على إعادة تصدير الكمية نفسها، وتستفيد من موقعها الإستراتيجي المطل على المحيط الأطلسي كنقطة ربط بين دول المغرب العربي ودول غرب أفريقيا لتعميق تعاونها الاقتصادي مع مالي؟
ميناء الصداقة
بفعل موقعه الجغرافي المتميز الواقع في تقاطع المسالك البحرية الكبرى الرابطة بين أفريقيا وأوروبا وأميركا، يتمتع ميناء نواكشوط بميزة تفضيلية كبرى، وهو ما يؤهله لأن يلعب دورا مهما في تخفيف تأثير العقوبات على مالي.
ويعد ميناء الصداقة الذي تأسس عام 1986 الميناء الرئيسي للاستيراد والتصدير في البلاد، ووفق مصادرة رسمية فإن الميناء يمثل نحو 96.4% من إجمالي حركة المرور البحرية السنوية إلى موريتانيا.
وقبل شهر افتتح الرئيس الموريتاني توسعة جديدة لميناء نواكشوط، تمثلت في رصيف للحاويات بطول 570 مترا وعمق 15 مترا، بتكلفة بلغت 320 مليون دولار.
وحسب الوكالة الموريتانية للأنباء، فإن هذه التوسعة وفرت قدرة استيعاب إضافية للميناء قدرها 600 ألف حاوية سنويا، تضاف إلى قدرة الاستيعاب السابقة للميناء التي كانت بحدود 350 ألف حاوية، ومكنت هذه التوسعة الميناء من استقبال السفن ذات الحجم الكبير، ومضاعفة قدرة التفريغ لديه 3 مرات.
الفرص الضائعة
سبق أن ناقش البلدان في فترات مختلفة في لقاءات متكررة السبل الكفيلة بجعل ميناء نواكشوط المستقل البوابة البحرية لجمهورية مالي، ولكن حتى الآن لم تصل تلك التطلعات إلى المأمول منها، بل إن بعض الموردين الموريتانيين يرى أن استغلال الماليين لهذا الميناء الإستراتيجي ما يزال ضعيفا جدا، وأنه ليست هناك امتيازات محفزة يقدمها الميناء للتجارة المالية، مؤكدين وجود مضايقات وعراقيل أمام الماليين لم تُقدم لها حلول جادة وناجعة حتى الآن.
مضايقات يرى رجل الأعمال الشيخ التراد عيلال (وهو مورد يتعامل مع التجار الماليين) "أنها أدت في الفترات الأخيرة إلى تقليص الواردات المالية العابرة من الميناء إلى مالي، مؤكدا أنه في السنوات الماضية كانت تعبر من ميناء نواكشوط أكثر من 300 حاوية شهريا، أما الآن فتمر 80 حاوية شهريا فقط من الميناء إلى مالي".
ويضيف للجزيرة نت من داخل الميناء "أن كثرة نقاط التفتيش وفرض حمولة معينة على الشاحنات المالية من أكبر العوائق أمام التجار الماليين"، مطالبا الحكومة بانتهاز الفرصة ومنح تسهيلات للتجار الماليين الذي يرغبون في رفع الواردات وإعطاء امتيازات للمستودعات المالية بميناء الصداقة بالعاصمة نواكشوط ومضاعفة التبادل ونقل البضائع إلى مالي".
وحين زارت الجزيرة نت المستودع المالي في ميناء نواكشوط لم تكن هناك حركة تجارية كبيرة ولا مخازن عملاقة، ولكن في تصريح خاص ومقتضب من وفد قدم مؤخرا من مالي لتفقد وضعية المستودع ومخازنه، أكدوا أن المسؤولين عاكفون هذه الأيام على وضع تصورات كفيلة بحل المشاكل ورفع مستوى الحركة التجارية بين البلدين.
ويرى الصحفي الخبير في الشؤون الأفريقية محفوظ ولد السالك أن الفرصة مواتية أمام موريتانيا من أجل أن تصبح وجهة الاستيراد الرئيسية لمالي، وذلك من خلال تقديمها تسهيلات، ووضع موانئ نواكشوط ونواذيبو وإنجاغو تحت تصرف باماكو.
وهو ما يعني -حسب ولد السالك- "أن الواردات المالية المينائية ستتضاعف، وستعرف حركة البضائع والأشخاص ديناميكية أوسع، بما يمكن أن يفتح الباب أمام تعاون اقتصادي إستراتيجي بين البلدين".
هل تستجيب موريتانيا؟
ورغم أن "الإيكواس" حاولت إقناع موريتانيا بغلق حدودها البرية والجوية والبحرية في وجه حكومة باماكو، دعما للعقوبات المفروضة عليها، فإن موريتانيا لم تعلن بعد موقفا صريحا من الحصار الذي تسعى دول إيكواس لفرضه على مالي.
وهو ما يعني أن موريتانيا تسعى لأن تكون وسيطا لحل الأزمة، بعيدا عن الاصطفاف، خاصة بعد استقبال الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني المبعوثة الخاصة للرئيس الدوري "للإيكواس" وبعده استقبال الوفد الوزاري المالي.
ولأن الماليين ينظرون إلى أهمية الموانئ الموريتانية، فإن ما تريده مالي من موريتانيا في ظل العقوبات المفروضة من قبل "الإيكواس" -حسب رأي الخبير السالك محفوظ- هو فتح نواكشوط موانئها من أجل تزويد أسواق مالي بالمواد الغذائية الأساسية، وهو ما عبرت عنه سلطات باماكو بوضوح.
وفي حال استجابة موريتانيا لهذا الطلب، الذي يتوقع أن تتفاعل معه نواكشوط، خاصة بعد زيارة الوفد الوزاري المالي الرفيع الأخيرة، فقد أشار محفوظ السالك إلى أنه لن يعوض مالي 100% عما تحتاجه أسواقها التي تعتمد على الاستيراد عبر عدة موانئ غرب أفريقية، لا سيما السنغال وساحل العاج وغينيا كوناكري، لكنه سيسهم في التخفيف من أعباء الحصار الاقتصادي المفروض جراء إغلاق دول "الإيكواس" حدودها.
موريتانيا ليست الخيار الوحيد لمالي أمام محاولة كسر الحصار الاقتصادي، فهناك غينيا كوناكري المعلقة عضويتها في مجموعة "إيكواس"، والتي أعلنت للوهلة الأولى أنها غير معنية بقرار الإغلاق، وبالتالي ستشكل منفذا ومتنفسا رئيسيا للبلاد.
وكانت دولة مالي الحبيسة، التي لا شواطئ لها، تعتمد في تجارتها الخارجية على موانئ دول الإيكواس، لكنه وبعد فرض الحصار عليها، فمن المتوقع أنها ستلجأ إلى موانئ جارتها الشمالية موريتانيا، التي تشترك معها في أطول حدود برية تصل إلى 2237 كيلومترا، ورغم أن موريتانيا ليست الخيار الوحيد فإنها تظل الحليف الإستراتيجي والبديل المفضل لدى مالي.
ويرى الماليون أنه ومن أجل تحقيق التكامل الاقتصادي ورفع مستوى التبادل التجاري بعد توسعة الميناء الجديدة فلا بد من تطوير النقل البري بين البلدين، وهو ما يحتاج الانسيابية والحرية في التنقل.
المصدر : الجزيرة