تربط الإنسان الموريتاني بالنخيل، علاقة أقرب إلى الحميمية، إذ يرعاها، ويبجّلها، ويقدّرها تقديراً كبيراً، بحكم الثقافة المحليّة، فيرى أنها تستحق معاملة مَلَكيِّةً. إنها بالنسبة إلى أبناء المواطن الموريتاني، ليست مثل بقية أشجار الأرض ونباتها، ويرى أنَّه إن عاملتها بما يليق بمكانتها، أكرمتك، وأغدقت عليك خيراتها التي لا يضاهيها شيء. لذلك، تنتشر واحات النخيل في البلاد الشاسعة، والمترامية الأطراف، وفي أكثر من ولاية من ولايات موريتانيا. وللإنسان الموريتاني مع التمر حكاية عشق مصرّح بها، فالتمر بالنسبة إليه غذاء، وفاكهة شبه مقدسة، وتكسب عنده في أي منافسة تدخلها.
"الگيطنة" موسم تبجيل التمر والنخيل
حسب بعض الدراسات التاريخية، يرجع تاريخ غرس النخيل في موريتانيا، إلى القرن الحادي عشر ميلادي. وقد ذكر المؤرخ البكري (1058م)، عشرين ألف نخلة حول حصن آزوگي في آدرار. وهناك أحاديث عن كون أول من غرس النخيل في واحات آدارار، هم البافور، وهم شعوب كانت تسكن في ولايتَي آدرار، وتگانت.
للتمر والنخيل مواسم، وطقوس، وتقاليد، وعادات مرتبطة به، ويُعدّ موسم الگيطنة (موسم جني التمور)، أهمَّ مواسم التمر في موريتانيا، إذ يكون فرصة لالتقاء الناس، ولحركة سوق التمر، وازدهار الواحات، ومناطقها.
ويقول محمد عبد الله ولد الكيحل، وهو مدير مدرسة في ولاية تكانت، لرصيف22: "منذ وعيت، أي منذ السبعينيات من القرن العشرين، وأنا أرى الناس يأتوننا في منطقة الرشيد. من كل فج من البوادي يأتي من يعرفون "الگيطنة"، أي موسم التمور. ويقال إن الگيطنة تقول سلّموا على من لا يعرفني، ومن يعرفني لا يحتاج. ويتم بناء "الأعرشة" (بيوت من الخشب)، بين النخيل، في واحات الرشيد، مثل المبروك آگنانة، وأفام أديار، والدخلة، وغيرها. والحقيقة غالباً ما تكون الأكثرية من الوافدين، من خارج فضاء المدينة، وأكثر من أهل النخيل أنفسهم. وتحصل حركة اقتصادية جيدة بسبب هذا الموسم. هذا ما كان يحدث قبل سنوات".
ويضيف: "يبدأ الموسم من شهر حزيران/ يونيو الخير، كما يقال، حتى آب/ أغسطس، ويقول المثل الحسّاني ‘النخل أشت’، بمعنى أن موسم جني التمور انتهى، ويأتي الناس من شتى أطراف البلاد، ليسكنوا في واحات النخيل داخل الخيام، والأعرشة. وتكون قد جُهزت لأهاليها، قبل قدومهم، ومنها ما يتم تجهيزه لمساعدتهم، ويكون من ضمنهم تجار يباع لهم، ويشترون، والأهم من هذا كله أنهم يكون لهم نصيب الأسد من الگيطنة".
ويتحدث ولد الكيحل عن أنواع التمور في منطقتهم، ويقول: "من أنواع التمور عندنا تمر الحمر، ومعريش، وتتنتركل، وكامل، وتنجدفت... إلخ، وكله جميل، ومنه ما يصلح لأدوار أكثر من غيره، ومنه ما هو دون ذلك".
لكنه يتحسر قائلاً: "هذا الواقع كان قبل سنوات، أما اليوم، فللأسف نحن نعاني كثيراً بسبب ندرة المياه، فالجو كان من قبل ماطراً. واليوم تكاد تكون الأمطار معدومة، خاصةً في منطقة تكانت، والنخيل يندثر بشكل عجيب، بسبب ندرة المياه، ولقلة الأمطار، ولأن عيون المياه التقليدية تنضب مع الزمن، ومن عنده جهد، يمكنه حفر الآبار فذلك يساعده، مع أن أكثرية الآبار الارتوازية بدأت تنضب كذلك. وبسبب هذه الظروف، أصبحت معالجة التمر والنخيل عملية مضنية، ولا ترد تكاليفها".
ويرى باب أحمد ولد أحمد ولد الخيمة، الذي تحدث لرصيف22، عن أن أهم ما يميز موسم الگيطنة، هو ما يحدث من "تلاقي الناس، وتبادل الزيارات، وكذلك لأنه يمارس خلالها الشباب الرماية التقليدية، والتي تُعرف محلياً بالشارة. وللتمور فوائد اقتصادية جمة، لكنها ما تزال في منطقتنا "تامورت النعاج"، محدودة جداً، وذلك بسبب ضعف وسائل استغلال التمور. وللنخيل فوائد جمة أيضاً، منها استغلال السعف في السقوف، وفي بناء الأعرشة، والدور، وإلى ما هنالك".
مخاوف من اندثار الواحات
تحتضن خمسٌ من ولايات موريتانيا، واحات متنوعة من التمور والنخيل، تتركز في وسط البلاد وشمالها، وشرقها، مع محاولات خجولة خارج ذلك الحيز. وتُعدّ مصدراً اقتصادياً مهماً للسكان، وللدولة. ووفقاً لبيانات رسمية، يُقدّر عدد النخيل في موريتانيا، بنحو 2.4 مليون نخلة، وحسب وزارة التنمية الريفية، تحل ولاية "آدرار" في الدرجة الأولى من حيث عدد النخيل، فهي تضم حوالي 1.19 مليون نخلة، تتوزع على 75 واحةً، منتشرةً على مساحة قدرها 5673 هكتاراً.
وتليها ولاية "تكانت" في المركز الثاني، بـ635 ألف نخلة موزعة على 127 واحة، تنتشر على مساحة قدرها 4275 هكتاراً.
ثم بعد ذلك، تأتي ولاية "لعصابة" في المركز الثالث، إذ تضم 517 ألف نخلة، موزعة على 97 واحة، منتشرة على مساحة قدرها 7914 هكتاراً.
وفي الأخير، تحلّ منطقة "الحوضين"، إذ تضم ولايتا الحوض الشرقي والحوض الغربي، 295 ألف نخلة موزعة على 53 واحة، تنتشر على مساحة قدرها 1852 هكتاراً.
ويُقدّر معدل الإنتاج السنوي في موريتانيا من التمور بـ60 ألف طن من التمور، أما عدد العاملين بشكل رسمي في مجال الواحات، فيُقدّر بنحو 250 ألف شخص.
ويُوجَّه ما بين 30 و40 بالمئة من الإنتاج الكلي من التمور، إلى الاستهلاك المحلي في أثناء موسم الگيطنة، في أماكن وجود الواحات. أما البقية من الإنتاج، فتخضع لعملية فرز، فالتمور ذات النوعية الجيدة يتم تسويقها، والبقية يتم تنظيفها، وحفظها بالتجفيف، أو تحويلها إلى أغراض أخرى.
وتمتلك موريتانيا مخزوناً وراثياً متنوعاً من نخيل التمر، وحسب المعطيات المتوفرة، يتراوح عدد الأصناف ما بين مئة وثلاثمئة صنف.
فمثلاً، يوجد في ولاية آدرار مئة وصنفان، وفي ولاية تگانت 36 صنفاً، و18 صنفاً في ولاية لعصابة، وثمانية أصناف في الحوضين، وتُعد التمور وتجارتها قطاعاً مهماً لسكان الريف في موريتانيا، خاصةً في موسم الگيطنة.
هذه الأرقام، حسب البعض، مهددة بالنقص والتقهقر، وذلك بسبب العطش، وندرة المياه، خاصةً في ولايتَي آدرار وتكانت، أهم معاقل الواحات والتمور في موريتانيا، وهو ما يدفع كثيرين إلى دق ناقوس الخطر، والمطالبة بسياسات تنموية تعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، واتخاذ سياسات لامركزية، لتطوير أماكن هذه الثروات، وجعلها أماكن جاذبة لمواطنيها، وقابلة للعيش.
ولربما أكبر عائق أمام تحقيق هذا الهدف، للحفاظ على ثروة وطنية تعاني بصمت، هو ندرة الماء في تلك المناطق.
وقال الشيخ إدوم ولد أعمر ولد سيد أحمد، القاطن في منقطة البيجوج في ولاية تكانت، لرصيف22: "تعاني المنطقة من التهميش، والعطش، والجفاف، والنخيل قد أوشك على الموت. على الرغم من فائدة التمور الجمة للمنطقة، وفوائدها التي لا تُعد ولا تُحصى، لا يتم الاهتمام بأشجار النخيل من قِبل السلطات".
ويؤكد على أن "المواطنين حلّت بهم مصيبة بسبب موت النخيل. فالناس كانوا يأتون من أنحاء العالم في زمن الگيطنة، واليوم أصبح لا يزور هذا المكان زائر، ولا يذكره ذاكر. وكانت بداية غرس النخيل في منطقتنا عام 1350 هجري (1931م)، وهو عام يلقبونه بعام شسن".
ويضيف الشيخ أن "النخيل كان يعتمد على التعاونيات، وكانت الآبار مليئة بالماء. أما اليوم، فقد تغير الحال، فالتعاونيات اندثرت، والآبار قد نفد منها الماء، والنخيل مات الكثير منه، أما البقية فقد أوشكت على ذلك بسبب قلة الماء".
وهو ما يؤكده باب أحمد، إذ يقول: "هناك مشكلات يعاني منها النخيل، مثل ضعف الرعاية، إذ أصبح الكثير منه عرضة للحيوانات السائبة. وهناك كذلك ندرة الماء إذ إن نسبة كبيرة من العاملين في غرس النخيل ليست لديهم قدرة مادية لسقيه بالوسائل الحديثة، ويعتمدون على سقيه بالوسائل التقليدية: العين، والبئر، والدلو. أما أهم المخاطر التي تتهدده، فهي مخاطر الأمراض: مثل مرض تاقاقت، والسوسة الحمراء التي اجتاحت نخيل الولاية سنة 2017".
ويرى ولد الكيحل أن "ندرة المياه أكبر العوائق، إذ أصبح يصعب على من لا يملك المال، المحافظة على بذرة النخيل بحد ذاتها فحسب، ناهيك عن سؤال الثمار".
ويؤكد على أن "المشكلات كثيرة، وأولها ندرة المياه، وضعف السكان، زد عليها قلة اهتمام الشباب اليوم بالنخيل".
واقع النخيل اليوم، وصرخات المواطنين القاطنين في المناطق المتاخمة للواحات، وأهلها، هما صرخات وواقع يتشاركونهما مع أغلب مدن الداخل وسكانه، فالتنمية متمركزة في العاصمة نواكشوط، وهو ما يرى كثر أنه يسهم بشكل كارثي في الهجرة من الداخل نحو العاصمة التي لا تتحمل زيادة في عدد سكانها أصلاً، لضعف الخدمات فيها.