منذ أسابيع، تجوب سيارات تاكسي وردية اللون، شوارع نواكشوط، تقودها نساء موريتانيات، وهي سيارات أجرة مخصصة للنساء فحسب. تفاصيل نجحت في خلق الكثير من الجدل، منذ أسبوع، بين الموريتانيين، على شبكات التواصل الاجتماعي، بين مُرَحِّب بالفكرة ويرى فيها فرصة لتمكين النساء، وخروجهن إلى سوق العمل، ومتنمّر على السائقات، والمشروع، وفكرته، ومنتقد للمشروع، خوفاً من أن يكون ترسيخاً لثقافة الفصل بين المواطنين، جندرياً، أي بناء على النوع الاجتماعي.
بيئة آمنة للنساء وفرص عمل
ترى مديرة شركة روز رايد مالكة سيارات الأجرة، آمنة أحمدي الحبيب، في حديث لرصيف22، أن المشروع "يهدف إلى توفير وسيلة نقل آمنة، تحافظ على خصوصيات المرأة، مع توقع أقصى درجات الحماية والراحة لها".
فالمشروع عبارة عن شركة للنقل، مخصصة للنساء حصراً، وبقيادة النساء. وترى المديرة أن "من شأن هذا المشروع، أن يحدّ من ظاهرة التحرش المتزايد في وسائل النقل العمومية، كما من شأنه الرفع من بعض الحرج الذي تتعرض له بعض النساء العاملات في مختلف المجالات، من بنوك، ومستشفيات، وإدارات، خاصةً أن بعض النساء، بحكم المجتمع الموريتاني المحافظ، يجدن أنفسهن في دائرة شرح وتبرير لمواقفهن، في كل مرة ينتقلن فيها في سيارة إحدى شركات النقل العادية. ومن شأن ذلك أن يحدّ من قدرتهن على التنقل، والمساهمة في دفع عجلة تطور البلد، وبنائه". وتضيف بثقة تامة: "لاقى المشروع ترحيباً واسعاً لدى الفئة المستهدفة".
يضم المشروع مجموعة من السائقات، ويُعد أول مشروع من نوعه في موريتانيا، شركة نقل خاصة بالنساء والسائقات فيها نساء حصراً، على الرغم من أن تجربة عمل المرأة في مجال قيادة التاكسي سبقت هذا المشروع، إذ دخلت سيدة، قبل أعوام، هذا المجال. ومن "قبطانات" التجربة، عائشة منت أمخيطير، التي تحدثت إلى رصيف22، عن أسباب انخراطها في المشروع.
وقالت عائشة: "خطر على بالي، أن أكون من ضمن سائقات التاكسي في هذه الشركة، حين سمعت للمرة الأولى، عن وجود شركة للنقل خاصة بالنساء، تعتزم الانطلاق، إذ إن طاقم العمل فيها من النساء، والسائقات أيضاً، والزبائن كذلك. سمعت بالفكرة من إحدى زميلاتي، وسألتها إن كانت تعرف كيف أتواصل معهن، ودلّتني على الطريق، حتى أعمل معهن، ولو متطوعة، من خلال سيارتي، وحينها لم يكن لدي علم بتفاصيل المشروع كلها".
عاشة، سائقة في المشروع
وأضافت: "صراحة، لم أكن أتوقع إقبال الفتيات للعمل ضمن هذه الشركة، وفاجأني أنهن قدمن طلبات عمل، بشكل لافت للانتباه"، تقول عائشة، وتضيف: "في أول اجتماع جمعني بإدارة الشركة، قلت لهن إنني مستعدة لأمرين، الأول أن أكون سائقة، والثاني هو الدعم النفسي للشابات اللواتي يُتوقَع انخراطهن في الموضوع، لأنني أتوقع أن يكون هناك هجوم عليهن، وعلى المشروع من طرف المجتمع. الحقيقة لم أجد حاجة إلى الدعم النفسي، إذ وجدت مستوى كبيراً من الإقبال، ومستوى جيداً من الوعي عند السائقات المرشحات. فهناك الكثير من القناعة".
عائشة فوجئت بالواقع الذي كان مناقضاً لتوقعاتها، وهو ما أكدته قائلةً: "اخترت هذه المهنة لأنني توقعت أنها ستكون مهنة مهجورة، ولم أكن أتوقع أن هناك كثيرات من الفتيات مستعدات لها، وكنت أريد أن ألعب فيها أكثر من دور، لأثبت لزميلاتي، وصديقاتي، اللواتي أعرفهن، أنهن في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه المؤسسات، أو إلى العمل عموماً. وأنه يمكننا العمل في مثل هذه المؤسسات، كسائر المؤسسات الأخرى، وأن الأمر عادي جداً، ولم أجد أي اعتراض من الأسرة نهائياً، بل شجعوني على القرار، وكان جميلاً عندهم".
عائلة عائشة تفهمت أن الظروف قاسية، وأن المرأة تحتاج إلى الفرص التي تجعلها تعتمد على نفسها، كما تؤكد. "بالنسبة إليّ، كان واضحاً لأسرتي الدافع الذي جعلني أهتم بالعمل في هذا المجال"، تقول.
بين الانتقاد والتنمّر
لم يمر المشروع مرور الكرام، فقد خلق جدلاً كبيراً. ومن الانتقادات التي وُجهت إليه، هي استخدام مصطلحات حقوقية، ونضالية، في مشروع تجاري، وكتب الأستاذ أحمد أحمدناه محمد الحسن، على صفحته على فيسبوك: "قصة 'المطية' الوردية قد تنجح، المأخذ الوحيد عليها في نظري، أن المديرة كانت في غنى عن الكثير من الكلام الذي قالته. المشروع تجاري غايته الربح، وهذا حقكن المشروع، التبريرات الأخرى ضررها أكثر من نفعها".
وحسب الناشطة النسوية مليكة محمد الأمين التي تحدثت إلى رصيف22، فإن توظيف مفردات حقوقية في مشروع تجاري هادف للربح، لم يكن مناسباً، وقالت: "أنا لا أحب الخلط بين ما هو تجاري، وما هو حقوقي، فالتركيز في الأساس على الجانب التجاري، لأن الشركة ليست منظمة حقوقية، لذا فالتركيز يجب أن يكون على الجانب الاقتصادي".
لكنها أكدت على أن "الحديث عن توفير بيئة آمنة للنساء مبرر. أنا شخصياً، لم أتعرض لأي خطر، لكن هناك نساء أعرفهن قلنَ إنهن تعرضن للتحرش من قبل سائقي تاكسيات الشركات الأخرى، من دون تحديد، وسبق أن قرأت منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي في هذا السياق".
آمنة، مديرة المشروع
وأشارت إلى أن "قضية الفصل بين الجنسين قد تكون حتمية، فحين تكون الغالبية العظمى من الرجال، إما متحرشين، أو مغتصبين، أو مشاريع متحرشين، أو مطبّعين مع الاغتصاب، لا يمكننا ألا نطلب من النساء، ألا يخلقن بيئة أخرى موازية تكون آمنة، خاصةً أن المشروع لا يصادر خيارات النساء الأخريات. فالمشاريع متنوعة في البلد، وهناك شركات متعددة فيها اختلاط، وهذا مشروع بديل لمن يحب، وليس الوحيد. لهذا، لا يمكن أن يرسّخ فكرة الفصل بين الجنسين، وهي ليست مطروحة، وأعتقد أنه انتقاد في غير محله".
وترى الناشطة النسوية مكفولة أحمد، التي تحدثت إلى رصيف22، أن "ولوج النساء إلى سوق العمل، والتنافس على تقديم الخدمات العمومية، أمران في غاية الأهمية، ويدرّان دخلاً مادياً مباشراً، على النساء والاقتصاد، لكن أيضاً ينبغي توخي الحذر من الأفكار التي قد تؤسس/ تساهم في العنصرية، أو التمييز، على أساس الجنس، أو عزل النساء. الأمر في غاية الخطورة، ويخلق وضعية معقدة لاحقاً!".
وتؤكد الناشطة على أن "النساء لا يمكن أن يوفرن للنساء بيئة آمنة، بعزلهن، وقد مررنا بتجربة سابقة، وينبغي العودة في أثناء الحديث عن ذلك، إلى المشكلات الجذرية، وما يناسبها من حلول جذرية، ويمكن الولوج إلى سوق العمل، من دون الخلط بين الأمرين. وأرجح الحديث عن الأمر ضمن إطار المشروع، كون أن النساء تعودن على العمل الاجتماعي، وربطه بالأنشطة، وليس بعمل المؤسسات، وفصله عن الأنشطة الاجتماعية".
"كراهية للنساء"
الجدل الذي خلقه المشروع، أعاد الحديث حول عمل المرأة، ونظرة البعض له، وحضورها في المجال العام. وحسب مكفولة أحمد: "النساء معتادات على التنمّر، والتهكم، بعد أي محاولة للخروج من المساحة الخاصة، إلى مساحة أكبر. أتذكر جيداً التنمّر على تعليمهن، وعملهن. ولكن أحياناً، يكون التنمر بشكل أذكى، كأن يتم استغلال قلة خبرتهن، أو وقوعهن في أخطاء محتملة، والأمر طبيعي، فالنساء لم يتحررن بعد من مخلفات القمع الذي شكل جزءاً من شخصياتهن. الأمر يحتاج إلى وقت طويل من التعود على الاستقلالية".
وترى مليكة محمد الأمين، أنه حين ننزع كراهية النساء من بعض من نقد هذا المشروع، لن يتبقى شيء، إذ قالت: "حملات التنمر سياسة يتبعها البعض، لتحطيم أي مشروع نسائي لا يمكنهم منعه. مثلاً هناك من يقول إنه حين تتلف العجلة، كيف ستواجه السائقة ذلك الموقف، بالإضافة إلى تصوير سيارة للمشروع تعرضت لحادث، وتحطمت مقدمتها، فكتب البعض ‘إلى المطبخ!’. كأنّ الرجال لا يتعرضون لحوادث السير، أو لا يلجؤون إلى من يصلح لهم العجلات. وعلى الرغم من أن المرأة الموريتانية تقود السيارات منذ الاستقلال، ولم تُمنع من قبل عن ذلك، إلا أن هناك من يزعجه ذلك المشهد. فما بالك بأن يُطلق مشروع مثل هذا".
"وخلصت قائلة: "طبعاً لدي بعض المآخذ الاقتصادية على المشروع، وجدواه. وطبعاً لدي مشكلة مع قضية تأنيث الألوان، واختيار اللون الوردي".
وعن العمل اليومي، تقول السائقة عائشة: "استقبال الناس، وتقبلهم لعمل المرأة، كسائقة تاكسي، حسب ما شاهدت خلال الأيام التي مرت، وأنا أمارس هذا العمل، كان جيداً. وجدت تقبلاً من الناس، خاصةً عند الزبونات، إذ يشجعننا على الفكرة".
وأضافت: "طبعاً شاهدت الحملات المناهضة على شبكات التواصل الاجتماعي، خاصةً من طرف الذكوريين، والحقيقة أننا منذ بدأنا هذا العمل، واجهنا الإزعاج في العالم الافتراضي، وفي الواقع أيضاً، فحين نسير على الطرقات، نتعرض أحياناً لبعض الإزعاج من قبل بعض السائقين الذين يعملون على محاولة حشرنا، أو صدمنا، حتى نظهر على أننا لا نعرف القيادة، وهكذا.".
لكن السائقة سرعان ما أبدت عزمها على الاستمرار في طريق العمل، على الرغم من العوائق: "في النهاية، لن تقدم منا واحدة على عمل مثل هذا، إلا إذا كانت تتقنه. الكثيرات من السائقات عملن في هذا المجال، نتيجة ظروفهن الصعبة، وأعتقد أنه على المجتمع أن يدعمهن، بدل أن يتعرضن للمضايقات من قبل الشباب في الشارع، من أجل إحراجهن".
وتضيف:" كان العزاء في أن الزبائن، تعاطيهن جميل جداً، إذ يقلن لي بالحرف، نحن سعيدات بكون النساء مستعدات للعمل في كل مجال. فالرجال يظنون أن هذا المجال حكر عليهم. حقيقة أنا لا أعرف لماذا تستفز القيادة الرجال. فنحن لم ننزعج في أي يوم من الأيام من كون الرجال في موريتانيا، هم من يسيطرون على بيع المواد التجميلية، والملابس الداخلية للنساء. فلم نقم يوماً بحملة تنمّر ضدهم، أو تصويرهم، وقلنا ها هو يبيع حاجيات النساء. لأننا في اللا وعي، كنساء، لا نظن أن هذا المجال خاص بنا، ولم تضايقهم يوماً". وأضافت أن الأمر ناتج عن سوء فهم وتقدير من الرجال، قائلةً: "قديماً، كانت النساء يحكن لباس الرجال التقليدي، خاصةً من ناحية التطريز. والمجالات كلها تعمل فيها النساء، إلا أن هذا المجتمع ذكوري بشكل غريب. في الحقيقة، المرأة ليس لديها أي حق في أي شيء، ومن تريد راحة البال، عليها ألا تبحث عن مصدر للدخل، وتظل عالة على أسرتها، أو زوجها، أو تذهب إلى عوالم الانحراف".
وأكدت مديرة المشروع على أن حملة التنمر، "ليست بسبب المشروع، من حيث خدماته، بل لاعتقاد المتنمّرين أن المرأة غير قادرة على القيادة بشكل جيد، أو أنها لا تصلح ككابتن للسيارات، وهذه الحملة ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا. كذلك بعض سائقي السيارات يضايقون أخواتهم، بعرباتهم، محاولين إرباكهن، وحثهن على الاستسلام، والعودة إلى المطبخ". لكنه الحلم الذي يبدو بعيد المنال، فعائشة ورفيقاتها من السائقات قررن الخروج إلى طريق العمل، على الرغم من العوائق والمطبات كلها.
رصيف 22