
"تظهر التحولات التي شهدها العالم خلال العقد الماضي أن نظام أحادي القطب الذي كان مسيطرا على العالم في العقود الماضية بات يضعف، وأن نظاما جديدا متعدد الأقطاب يضم عدة أقطاب كبرى في طور التشكل، وإلى جانبها عدد من الأقطاب المتوسطة والمهمة، آخذ في التشكل. إن المسارات التي تشكلت حتى الآن لا تتيح إمكانية عودة العالم إلى النظام القدیم (أحادي القطب). ولذلك فإن السعي للحفاظ على الوضع السابق من قبل القوة المهيمنة لا يؤدي إلا إلى زيادة تكاليف هذا التحول في هذا النموذج.
مع بروز لاعبين جدد على الساحة الدولية وقيامهم بأدوار مؤثرة بعد أن حازوا جزءا مهما من القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، لم تعد آليات ممارسة القوة من قبل الهيمنة تعمل بالكفاءة السابقة. بل إن ممارسة القوة بالأسلوب القديم، أي القوة العسكرية واستخدام الإكراه، لن تؤدي إلى النتيجة المرجوة، وقد تترتب عليها حتى آثار سلبية في مجالات أخرى من القوة مثل القوة الاقتصادية أو الإعلامية بالنسبة للنظام الأحادي القطبية.
ومن سمات النظام الجديد أيضا سعي باقي اللاعبين إلى الاقتراب من قطبٍ واحد أو عدة أقطابٍ من مراكز القوة. فمثلا، ما زالت بعض الدول ملتزمة بالتعاون مع الولايات المتحدة بل وتعزز هذا التعاون، في حين أن دولا أخرى تقترب من القوى الصاعدة مثل الصين. وفي المقابل، هناك لاعبون يحاولون الحفاظ على علاقاتهم مع مختلف أطياف مراكز القوة وتعزيزها في الوقت نفسه. ومجمل هذه المؤشرات يؤكد عدم إمكانية العودة إلى الظروف السابقة.
برأي الكاتب، أن أحد العوامل التي يمكن أن تسرع من وتيرة تراجع القوة المهيمنة هو لجوؤها إلى استخدام القوة العسكرية من أجل تثبيت هيمنتها. فذلك يشبه السباحة عكس التيار، إضافة إلى أن الظروف الدولية الراهنة لا تتيح للهيمنة القيام بذلك، لآن تركيز النظام أحادي القطب على استخدام القوة العسكرية يصرف انتباهه عن مجالات أخرى مثل المجال الاقتصادي. وفي هذه الحالة، يلجأ بقية المنافسين إلى تعزيز قدراتهم بشكل أسرع لامتلاك مقومات القوى بهدف الوصولا لمستوى القوى المهيمنة أو حتى التفوق عليها.
السؤال الأساسي هو: هل ينبغي للعالم، في مسار انتقاله من المرحلة السابقة (الأحادية القطبية) إلى المرحلة الجديدة (التعددية القطبية)، أن يشهد حروبا عالمية كما حدث في الماضي، أو الدخول في سباق تسلح على غرار الحرب الباردة؟ وهل يمكن توقع أن تكون كلفة هذا الانتقال منخفضة، أو أن يتم قدر من التفاهم بين القوى الكبرى؟
الإجابة: يمكن القول أنه بالنظر لطبيعة النظام الدولي القائم على القوة والمنافسة والمصالح، فإن قبول القوى الصاعدة في النظام العالمي الجديد لن يكون بالأمر السهل. غير أنّ مستوى المنافسة وتعارض المصالح بين القوى الكبرى يتوقف إلى حد ما على قوة الردع المتوفرة وعلى عدم تداخل المصالح الحيوية لهذه القوى مع بعضها البعض.
فقد شهد عالمنا خلال العقود الماضية، وتحت سياسات نظام الأحادية القطبية، أزمات وحروبا وظلما، وكثيرا من الاختلالات. فقد اشتعلت الحروب الداخلية والإقليمية، ووقعت مجازر وعمليات إبادة وجرائم حرب، إضافة إلى نهب الموارد الطبيعية، واغتيال المعارضين وغير ذاك من الانتهاكات والتجاوزات.
هذه الأحداث المؤسفة كانت نتيجة إصرار نظام الهيمنة والقطب الواحد على فرض سياساته وإرادته على الدول والمناطق الأخرى.
وكما أشرت سابقا، فإن طبيعة النظام الدولي بطبيعتها بيئة تنافسية مضطربة. وضبط هذا الوضع، في مرحلة ينهار فيها النظام القائم (النظام العالمي القديم) في حين لم يتشكل بعد النظام العالمي الجديد، سيكون أمرا شدید الحساسية والخطورة.
وخلاصة القول يمكن الإشارة إلى ما يلي:
- أولا، يمكن تسمية المرحلة الحالية بمرحلة الانتقال؛ وهي مرحلة انهار فيها النظام السابق، بينما لم يتشكّل النظام الجديد بعد.
- ثانيا: هناك لاعبين جدد، إلى جانب الصين والهند، يسعون لإثبات وجودهم وقوتهم على الساحة الدولية.
- ثالثا، الحكم بشأن كيفية تشكّل النظام العالمي الجديد غير قطعي.
- ورابعا، الحروب وسباق التسلح والمنافسة التجارية، وتغيير الأنظمة وغيرها، أمور ستحدث بكل تأكيد خلال هذه المرحلة الانتقالية. ولذلك فإن التحولات هذا العصر الانتقالي ستؤثر بدون شك في معظم الفاعلين الدوليين.
ومهما كانت نتائج هذه التحولات، فإن المؤكد هو عدم العودة إلى العواما السابقة، واستمرار تراجع الأحادية القطببة مقارنة بالماضي

