مآسينا من غزة إلى السودان/ محمد بوالروايح

18 نوفمبر, 2025 - 18:06

كنَّا العالمَ الأول، لا تنازعنا في ذلك أمة من الأمم.كان ذلك زمن الفتوحات الإسلامية التي شملت بقاعا كثيرة، تشكَّلت على إثرها الدولة الإسلامية التي دانت لها الإمبراطورية الساسانية وغيرها من الإمبراطوريات العتيدة التي سادت ردحا من الزمان. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدير من المدينة المنورة دولة مترامية الأطراف يسير فيها الراكبُ أشهرا لا يبلغ أطرافها لشساعتها، وكان الخلفاء والأمراء يحرك الواحد سبّابته فترتعد فرائص الخصوم من وراء التخوم.
لقد حكم المسلمون البلدان بقوة الإيمان قبل قوة السنان.حدث هذا يوم كانت الأمة الإسلامية جسدا واحدا. وكان هذا يوم كان المسلمون أمرهم شورى بينهم، لا يستبدّ فيه الحاكم ولا يُذل فيه المحكوم، فلكل دور يؤديه ولا غنى لأحدهما عن الآخر. وحدث هذا يوم كانت المرأة تستغيث “وامعتصماه”، فنجهِّز الجيوش لنصرتها، ويوم كان الألمعيون هم من يُستشارون ويختارون لأداء الأدوار الكبيرة التي يعلق عليها مصير الأمة. ويوم كان المسلم وقّافا عند حدود الله، قائما بما عليه من واجبات تماما كإلحاحه على ما ينبغي له من حقوق.

انقلب الآية في هذا الزمان فتحوّلت الأمة التي كان يشار إليها بالبنان ويخشاها الأعداء عن بعد وجيوشها رابضة لم تبرح مكانها وسيوف جنودها في غمدها، وأضحت هدفا يُرمى، يتربص به القاصي والداني فتخضع راغمة لأنها فقدت بأسها وسرَّ قوتها وانفصمت عراها فكل يغني على ليلاه.

وحدث هذا يوم كانت العدالة الاجتماعية تطبَّق بإحكام فلا يُبخس فيها الضعيف حقه ولا يستأثر فيها القوي بالجمل وما حمل.
وحدث هذا يوم كان الناس يؤمنون بأن الدين أمانة والوطن أمانة ليس ليُحمدوا على ما فعلوا وليمدحهم الناس بل لأن شرائع السماء وقوانين الأرض تحتّم عليهم ذلك، فلا شرف لمن باع دينه وخان وطنه وتنكّر لقومه وارتمى في أحضان عدوه. وحدث هذا يوم كان المسلم يؤثر الموت في سبيل الله على العيش مقهورا محسورا ذليلا مهينا، تلفح جنبه سياطُ الجلاد ولا يقوى حتى على الأنين لأن بدنه المنهك لم يعد قادرا على ذلك، ويوم كانت الأمة الإسلامية مهابة الجانب، يُحسب لها ألف حساب، ويوم استجاب المسلمون لقول الله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” (الأنفال 60). وحدث هذا يوم كان الواحد ينفق من ماله على أمته أكثر مما ينفقه على عياله لأنه يؤمن بأن عثرة الأمة ثلمة لا تجبر والمصيبة الأكبر.
وحدث هذا يوم كان العلماء يشدون أزر الأمراء ويوم كان الحكماء مرآة للحكام قبل أن ينزوي أكثرهم في المحاريب لا يفكرون إلا في خاصة أنفسهم وفي أتباعهم وأشياعهم وتنطلي عليهم مكائد أعدائهم بأن للوطن ربا يحميه مبررين بذلك تقاعسهم في حماية وطنهم وتبصير عوامّهم والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم كما جاء في الحديث الشريف.
انقلب الآية في هذا الزمان فتحوّلت الأمة التي كان يشار إليها بالبنان ويخشاها الأعداء عن بعد وجيوشها رابضة لم تبرح مكانها وسيوف جنودها في غمدها، وأضحت هدفا يُرمى، يتربص به القاصي والداني فتخضع راغمة لأنها فقدت بأسها وسرَّ قوتها وانفصمت عراها فكل يغني على ليلاه. وهذه هي الحالة التي أخبر عنها الصادق المصدوق من حديث ثوبان رضي الله عنه: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله فمن قلةٍ يومئذ؟ قال لا، بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم للدنيا وكراهيتكم للموت”.
إن الاستعمار بكل أطيافه ومِلله والاستعمار كما قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله ملة واحدة، قد عمل عمله وفعل فعلته في كثير من البلدان العربية والإسلامية، استباح حماها واغتصب أرضها وفتن شعبها في نهم يشبه نهم الأكلة حين تجتمع على قصعتها، كل يسعى للاستحواذ على النصيب الأوفر والجزء الأكبر.
ألا يعدُّ وصف “الرجل المريض” الذي أطلقته الدول الاستعمارية على الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر عن حالة الهوان التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليهوسلمو؟. ألم تكن الحال البئيسة التي أصبح عليها الدايات تعبِّر عن حالة الضياع التي لا نزال نتجرّعها إلى يوم الناس هذا، تجتمع كلمة أعدائنا ولا تجتمع كلمتنا بل قد تجتمع كلمة بعض أشقائنا علينا ونُرمى بنيران صديقة أو هكذا تصوَّرناها قبل أن ندرك أن تودُّدهم إلينا كان أمرا مصطنعا وسلّما يرتقون ويتزلفون به إلى من يكيدنا ويعمل على تقويض بنيتنا وتفريق شملنا. ولى عصر الدايات وازداد الشرخ في الأمة الإسلامية وتحرك الاستعمار الجديد لإكمال المهمة القذرة التي بدأها الاستعمار القديم، تحرك برنارد ليفي وأشغلنا بما سماه “الربيع العربي” الذي صدقه للأسف كثير من العرب وهللوا له وكأنه فتح الفتوح الذي ينسينا فتوحات كبيرة في تاريخنا الإسلامي. صدق بعض المتهوّرين خرافة “الربيع العربي” ووضعوا أيديهم في يد برنارد ليفي وخرّبوا بيوتهم بأيديهم ثم طفقوا يبكون أوطانا خربوها.
أليس من هوان الأمة العربية والإسلامية أن تدك معاقلها ويقتل أطفالها وشيوخها ونساؤها في غزة فلا تحرك ساكنا لأنها تقدر على نصرتهم وردع جلادهم وقاتلهم ولو أرادت؟ أليس من هوان الأمة العربية والإسلامية أن تطلق إسرائيل العنان للمستوطنين للاعتداء على مساكن الفلسطينيين ومزارعهم في الضفة الغربية ثم تبرر هذا بأن هذه المساكن والمزارع تقع ضمن مخطط التوسعة العمرانية الذي أمرت به الحكومة وأيده الكنيست؟ أليس من هوان الأمة العربية والإسلامية أن يعدم البعض القدرة على إيجاد مخرج من الأزمة في غزة ثم يطلقون العنان لأقلامهم ولألسنتهم للتشويش ولتسفيه مبادرات الوساطة التي تقوم بها بعض الدول لتخفيف معاناة الغزيين ولإطعام جياعهم وإيواء مشرديهم وعلاج مرضاهم؟ أليس من هوان الأمة العربية والإسلامية أن تستمر إسرائيل في هدم الدور ونسف المستشفيات وقصف الساحات وهي تتفرج وتكتفي بإصدار البيانات لرفع الحرج؟.
أليس من هوان أمتنا ما يحدث في لبنان حتى في عز وقف إطلاق النار؛ قصف هنا ونسف هناك، والمبرر المتكرر لدى الكيان هو رصد تحركات مشبوهة لحزب الله في الجنوب اللبناني وسعيه لإعادة بناء قوته وترميم الأضرار التي مني بها في مواجهته الأخيرة مع إسرائيل؟ ما ذنب اللبنانيين الآمنين حتى يُقصفوا ويُقتل بعضهم بنيران غادرة؟.
أليس من هوان الأمة أن لا يكون لها دورٌ فيما يجري في بلاد عربية كثيرة من قتل مبرمج وإجرام منهجي إذا استثنينا بعض المبادرات التي تستحق الإشادة والتي نأمل أن ينضم إليها عدد آخر من الدول العربية ففي الاتحاد قوة رغم تباين موازين القوة؟.
إنه ليؤلمني ما يحدث في ليبيا التي نتمنى أن تجتمع كلمة أبنائها وتثمر مصالحة وطنية شاملة في كل ربوعها، فمن حق إخواننا الليبيين أن ينعموا بالأمن كسائر الشعوب وأن يدخروا السلاح لمواجهة التهديدات الخارجية التي تتربص بليبيا طمعا في نفطها وخيراتها ومواردها.
وإنه ليؤلمني ما يحدث في السودان وما خلفته المواجهات بين الجيش السوداني وبين “قوات الدعم السريع”. فهل من انفراج قريب وحلحلة للوضع تعيد للسودان مكانته الإقليمية والدولية؟ أملنا في حكمة السودانيين أن تثمر وقفا نهائيا للعمليات القتالية وأن يحتكم المتخاصمون إلى ما يتم التوافق عليه بين السودانيين؟
أقول في النهاية، إنه رغم الجراح وحالة التشرذم التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية ورغم حالة الهوان غير المسبوقة التي نعيشها فإن هناك أملا في فرج وشيك وانفراج قريب يعيد لأمتنا هيبتها ويجمع كلمتها وما ذلك على الله بعزيز.