"شهادة شهود العيان".. هل يجب أن يثق القضاة بها حقا؟

9 مارس, 2021 - 11:10

في مساء ثمانينياتي هادئ بينما كانت جينفر ثومبسون(1) ذات الاثنين والعشرين ربيعا تتجهز للنوم، دخل أحدهم خفية إلى منزلها بسكين حاد ثم وضعه على عنقها طالبا منها الاستسلام لرغباته وإلا سوف يقتلها، اضطرت ثومبسون للاستسلام، وبينما تحدث جريمة الاغتصاب قررت أن تحفظ ملامح وجهه قدر الإمكان كي تُدلي بها للشرطة.

بعدما رحل المجرم ذهبت جينفر إلى قسم الشرطة وقدّمت بلاغا، عرض عليها الضباط مجموعة من الصور فاختارت مواطنا أميركيا يعيش في المنطقة نفسها وله سابقة في التحرش اسمه "دونالد كوتون" لتقول إنه مَن اغتصبها، ثم حينما اصطف مجموعة من المجرمين أمامها اختارته وقالت إنه هو الجاني، وفي المحاكمة أكّدت للقاضي أنه هو الجاني، تسبَّب ذلك في أن نال كوتون عقوبة السجن المؤبد لتقول جينفر للصحافة إنها "الآن تستطيع أن تتنفس".

في سنة 1987 تقدّم كوتون لمحكمة الاستئناف وطالب بمحاكمة جديدة مُصِرًّا على براءته لأنه علم بالمصادفة داخل السجن أن شخصا آخر يُدعى بوبي بوول هو مَن اغتصب جينفر ثومبسون، لكنه -هذا الشخص الآخر- حينما عُرض على جينفر قالت: "أنا لم أرَ هذا الشخص في حياتي"، وأصرّت من جديد على أن كوتون هو الجاني.

بعد ذلك بعدة سنوات، ومع ظهور تحليلات الحمض النووي، وانضمامها لأدوات البحث الجنائي، طالب كوتون بالخضوع لهذا التحليل ومقارنته بعينات الحيوانات المنوية التي حصلت عليها الشرطة من موقع الجريمة، وإذا بالنتيجة تُظهِر براءته بعد 11 سنة من السجن! كان هذا عجيبا حقا، لكن الأعجب هو النتائج التي ظهرت بعد أن أخذ المشروع الأميركي للبحث عن الأبرياء المسجونين بالخطأ (Innocence Project) في إعادة النظر في عدد من القضايا الأميركية.

بسبب هذا المشروع(2)، تبرَّأ 375 شخصا ممن أُدينوا وحُكم عليهم بالإعدام منذ عام 1989 إلى لحظة كتابة هذه الكلمات، معظمهم في جرائم قتل أو جرائم جنسية، 69% من هؤلاء أُدينوا بسبب خطأ لشهود عيان قاموا بالتعرُّف عليهم سواء بشكل مباشر أو من خلال صور، معظم هؤلاء كان من الأميركان من أصل أفريقي، فتح ذلك الباب للتساؤل عن مدى ثقل شهادة شهود العيان في المحاكم.

تبقى الصورة الشعبية عن شهادة شهود مثالية، ربما كان السبب في ذلك هو الأفلام أو الروايات، حيث تُمثِّل تلك اللحظة التي يرفع فيها أحدهم إصبعه ويشير إلى آخر في مركز الشرطة أو قاعة المحاكمة قائلا "إنه هو يا سيادة القاضي" نقطة مفصلية في حبكة القصة، حينما يتكرر ذلك طوال حياتنا وفي كل فيلم ورواية تتحدث عن الأمر، فنحن نُصدِّقه حقيقةً واقعةً.

من جانب آخر فإن شهود العيان عادة ما يكونون مُقنعين للجميع، سواء كانوا متفرجين أو قضاة، بمعنى أنه سيكون رجلا مخلصا وشجاعا وصادقا قرّر أن يساعد تلك السيدة التي سُرقت حقيبتها في الشارع، كان من الممكن ألا يذهب معها إلى قسم الشرطة لكنه فعل، في قاعة المحكمة يمكن له أن يُقنع القاضي أو هيئة المحلفين لأنه ببساطة صادق في تعبيره عن نفسه، لا صالح له في هذه القضية ولا يعرف الجاني أو المجني عليه.

لكن المشكلة الرئيسية لا شك تنبع من مدى ثقتنا في ذاكرتنا، أحد أشهر الأخطاء التي يقع فيها الناس على سبيل المثال هي ظنهم أن الذاكرة الخاصة بنا هي ببساطة كاميرا تُسجِّل ما يُعرض أمامها من أشياء ثم بعد ذلك تُخزِّن هذا الملف وتعرضه أمامك إذا استرجعته مرة أخرى دون أخطاء.

لكن على الرغم من ذلك فهناك أشياء قد تؤثر في دقة الذكريات الخاصة بنا، الظروف التي يجتاحنا القلق والتوتر خلالها على سبيل المثال تؤثر بقوة على ذاكرتنا، وكانت دراسة(3) بريطانية صدرت سنة 1978 قد وجدت أن ذاكرة الأشخاص الذين شاهدوا فيلما لهجوم عنيف كانت أضعف بفارق 40 مشهدا مقارنة بمجموعة شاهدت فيلما عاديا، الجرائم بالطبع هي أحداث غير عادية وغالبا ما تكون مُرهقة ومُرعبة لمَن شَهِدوها، لذلك يُعتقد أنها ستؤثر على شهادة شهود العيان.

بل إن الأمر قد يكون أعمق من مجرد التوتر، في تلك النقطة دعنا نتأمل دراسة فرنسية صدرت(4) في ديسمبر/كانون الأول عام 2019 بدورية "نيتشر هيومان بيهيفيور"، حاولت فحص قدر التشوُّه الذي يمكن أن يصيب ذاكرتنا إذا تأثرت بما يسمى "الذاكرة الجمعية"، التي تعني اجتماعا لكمٍّ من المعارف والمشاهد والقصص في ذاكرة شخصين أو أكثر.

قرّر الباحثون في هذا الفريق عمل فحص دقيق للتغطية الإعلامية الفرنسية للحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى أكثر من 30 وثائقيا وتقريرا راديويا نُشرت عن الموضوع نفسه في الفترة بين 1980-2010 ولاقت شهرة واسعة في البلاد، اهتم هذا الفريق تحديدا بأكثر المشاهد والجمل التي نطقها المذيعون تشاركا بين الناس، بعد ذلك خضعت مجموعة من 24 شخصا لاختبار تضمّن عرض مجموعة من الصور التي تحوي كلاما مكتوبا أسفلها، بعض هذا الكلام كان رائجا في التغطية الإعلامية لعملية الإنزال في نورماندي 1944، التي تُعَدُّ أكبر عملية غزو بحري في التاريخ إلى الآن.

هنا جاءت النتائج لتقول إن الخاضعين للتجارب قالوا إنهم يتذكرون أن هذه الصور التي تحمل أسفلها كلاما له علاقة بالتغطية الإعلامية ليوم النورماندي هي من الحرب، ولا يتذكرون تلك الصور التي حملت أسفلها كلاما عاديا، بغض النظر عن محتوى الصورة أو كونها بالفعل مشهدا من الحرب أم لا.

يعني ذلك أن ذكرياتنا عن شيء ما لا تتأثر فقط بما نراه أمامنا ولكن قد تتشوّه بأشياء أخرى جاءت في السياق نفسه، تُشير هذه التجربة إلى أن الذكريات الجمعية التي نتشاركها معا حول حادثة ما هي إلا أحد تلك الأشياء، لكن أيضا يمكن لأشياء أخرى أن تشارك في تشويه ذاكرتنا مثل خبراتنا السابقة، في تلك الحالة فإن ذكرياتنا عن حوادث سابقة شارك فيها مجرمون لهم هيئة محددة (أميركان من أصل أفريقي مثلا) قد تدفعنا لذكريات خاطئة عن حوادث جديدة تماما، لكن شارك فيها أناس بالمواصفات نفسها التي تسكن ذاكرتنا الجمعية.

في الواقع، فإن فريدريك تشارلز بارتليت(5)، العالم النفسي البريطاني، كان أول مَن أشار إلى أن الذاكرة لا تعمل مثل كاميرا تُسجِّل ما يقع قبالة أعيننا من أحداث، لكنها تتأثر جذريا بتفسيراتنا الشخصية لهذه الأحداث، الأمر الذي يعتمد على معاييرنا وقيمنا المكتسبة أو الثقافية، في تجارب بارتليت فإنه في سلسلة من القصص تبدأ من الشخص 1، الذي يخبرها بعد فترة للشخص 2، الذي بدوره يخبرها بعد فترة للشخص 3، يمكن أن نلاحظ انحرافا ملحوظا في القصة الرئيسية مع الزمن.

سبب ذلك أنه من سمات الذاكرة البشرية أننا لا نُخزِّن المعلومات تماما كما هي مُقدَّمة لنا، بل نستخرج منها جوهرها أو المعنى الأساسي الخاص بها، الذي يجب أن يتوافق مع ما نتصور أنه طبيعة العالم من حولنا، ثم نضع ذلك كله في أدمغتنا على أنه ذاكرة. بمعنى أوضح، يُخزِّن الأشخاص المعلومات بالطريقة الأكثر منطقية بالنسبة لهم.

لنستعرض نتائج مثيرة جدا للانتباه توصل إليها(6) كلٌّ من إليزابث لوفتس وجون بالمر متخصصي علم النفس الإدراكي من جامعة واشنطن في السبعينيات من القرن الفائت، في التجربة الخاصة بهما عُرض على الناس سبعة أفلام قصيرة، في كل هذه الأفلام يرى المشاركون في التجارب حادث اصطدام سيّارة.

بعد ذلك يُطلب من كل متطوع أن يُعطي تقديرا لسرعة السيارة أثناء الحادثة، لكن هذا الطلب سيكون بجملة مختلفة بالنسبة لكل مجموعة من المتطوعين، على سبيل المثال: كم كانت سرعة السيارة تقريبا أثناء الاصطدام؟ وفي كل مرة تالية نُغيِّر كلمة الاصطدام إلى "ارتطام" (collide)، و"تحطم" (Smash)، و"ارتجاج" (Bump)، و"ضرب" (Hit)، و"اتصال" (Contact).

جاءت النتائج لتُشير إلى أن المتطوعين الذين استُخدمت معهم كلمات أكثر عنفا قالوا إن السيارة اصطدمت بسرعة أكبر، وخلال عدة عقود، ضمت أكثر من 200 دراسة(7)، تبيّن لكلٍّ من لوفتس وبالمر أن تعديلات طفيفة، بحيث لا يمكن ملاحظتها بسهولة، في اللغة المستخدمة لإعطاء المعلومات بعد حدث ما، سواء كانت مقصوده أو غير مقصودة، مثلا السؤال عن تذكر وجود "إشارة مرور حمراء" أثناء الحادث أو "إشارة المرور الحمراء"، يمكن أن تُعدِّل في طريقة تذكُّرنا للأشياء.

بشكل أكثر عمقا، تُشير تجارب لوفتس وبالمر إلى أن تأثُّرنا بالمعلومات والكلمات والأحداث التي تقع في الفترة الزمنية بيننا وبين حادث ما حصل في الماضي يُشوِّه ذكرياتنا عن هذا الحادث بدرجات مختلفة، قد تكون بسيطة جدا أو قد تكون مؤثرة في حالة شهادة شهود العيان مثلا. من تلك الوجهة فإن الذاكرة ليست كاميرا تسجيل بقدر ما تشبه "ويكيبيديا"، يمكن لك أن تدخل لتُسجِّل بها موضوعا ما، لكن يمكن للآخرين أيضا أن يتدخّلوا لتعديلها مع الزمن.

يُسمى ذلك "بتأثير التضليل"(8) (misinformation effect)، وهو ما تختبره بشكل عادي -وربما يومي- حينما تختلف مع صديق لك حول لون السيارة المركونة أمام الشركة، فيؤكد أحدكما أنها زرقاء ويؤكد الآخر أنها حمراء، إن لم يكن كلاكما، فأحدكما بالتأكيد مخطئ، لقد خلق ذكرى حقيقية تماما عن شيء لم يحدث أصلا، وهو شيء يحدث لنا جميعا، فأنت مثلا تكون متأكدا تماما أنك تتذكر تركك للمفاتيح على طاولة الطعام.

تُشير البيانات في بعض البلدان إلى أن شهود العيان يكونون على خطأ في 33% من الحالات، وحاليا يتدخل علم النفس لتعديل الكثير من القوانين الخاصة بهذا النطاق لجعل شهادة شهود العيان أقرب إلى الصدق، سواء عن طريق تعديل الأسئلة الموجهة للشاهد بحيث تكون محايدة قدر الإمكان، أو عمل نماذج منطقية معقدة للتأكد من توافق الشهادة مع أرض الواقع. على الرغم من ذلك، تُشير النتائج البحثية إلى نقص كبير جدا في المعرفة حول طبيعة ذاكرة شهود العيان بين المحلفين والقضاة وموظفي إنفاذ القانون(9).

شادي عبد الحافظ