ما زلنا نعتقد أن الثقافة هي الحصن الذي يعسر اختراقه من موجات التطبيع المتلاحقة. ظل هذا اليقين الراسخ يستند إلى جملة من الوقائع والأسباب التي تعود إلى أن السياسة عند العرب، منذ عقود قريبة، كانت حقل خطاب التطبيع وممارساته. سيكون من المهم، في هذا السياق، الإشارة إلى ما يثيره مصطلح التطبيع من إشكالات دلالية، فيها تحايل وخديعة كثيران، فهو ملتبس، إذ يحيل إلى مساراتٍ تسعى إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها، وإلغاء كل الأشكال غير الطبيعية من الأشياء (مبادرات، مشاريع). والحال أن ترتيب العلاقة مع كيان غاصب ومحتل، واصطناعي ولدته سياقات ومؤامرات وترضيات وتسويات بين أمم لا علاقة لها بفلسطين، إلا على قاعدة سلب حق تاريخي طبيعي. وهذا الأمر هو غير الطبيعي، فالسياسيون الذين كانوا أول من هرولوا إلى التطبيع انتهكوا طبيعة الأشياء، واعتدوا على انسجامها، فالقطيعة مع هذا الكيان وعزله وفضح المتحالفين معه هو الأمر الطبيعي الذي علينا أن نطبّع معه.
كان التطبيع يجري في محافل السياسة ودهاليزها، بعيداً عن ثقافة الأمة وشعوبها وعقيدتها، وظل غريباً ضيقاً لا يخرج عن دائرة المكاتب والغرف المظلمة. يبين فيلم "السفارة في العمارة" الذي قدّمه عادل إمام بأسلوب فني ساخر ما يلاقيه التطبيع من حصار في أوساط الشعب المصري الواسعة، وهو الحصار الذي يعزل الدبلوماسيين الإسرائيليين في ما يشبه "الجيتوات"، حيث يُجتثّ هؤلاء من العلاقات الاجتماعية الواسعة. وليس الأمر مختلفاً في الأردن ودول عربية أخرى فيها هيئات وتمثيلياتٌ إسرائيلية. لم يحرز التطبيع في هذه البلدان أي قبول شعبي، فقد نشطت فاعليات وتكتلات وتجمعات وأندية في مناهضته، فظلّ في دوائر ديبلوماسية ضيقة، حتى لا يعدو أن يكون مستساغاً. استطاع هذا المزاج الشعبي العام، من خلال ما تعزّز من حسّ شعبيٍّ وطنيٍّ وقومي، أن يشكّل مناعة شعبية مناهضة للتطبيع بأشكاله المتعدّدة.
السياسيون الذين كانوا أول من هرولوا إلى التطبيع انتهكوا طبيعة الأشياء، واعتدوا على انسجامها
على الرغم من وجوب مقاومة التطبيع وفظاعة السير فيه، إلا أن مثقفين عرباً هرولوا إلى التطبيع، بحثاً عن مصالح أنظمتهم، أو مساهمة في حماية عرش الحاكمين من هزّاتٍ حقيقيةٍ أو متوهمة. ومن خلال ما تسرّب من مذكّرات، لم تسلم هذه المبرّرات الواهية من ابتزاز ووعود سفّهتها ما آلت إليه الأمور لاحقاً. لا أحد يستطيع إقناعنا بأن مصر بعد التطبيع أفضل، وأن الأردن تبدّل حاله نجو الرخاء بعد تطبيعه مع الكيان الصهيوني. حصلت ممارسات تطبيعية رسمية عديدة، من دون مبرّر، ولو كان واهياً. ومنها حالة موريتانيا، البلد الذي يتصف المزاج الشعبي فيه بأنه أقرب إلى الصفاء القومي بالسليقة. وتطبيع الإمارات مع إسرائيل يقدّم حالة غريبة، فلا حرب اندلعت بينهما، فضلاً عن مزاج قومي عربي في هذا البلد كان متوهجاً لدى مؤسسي هذا البلد، نسفه الأبناء والأحفاد، حتى كان تطبيعهم شكلاً من الخروج من الجلد. ويبدو أن حكّام الإمارات أصيبوا، كما ذكر عزمي بشارة أخيراً، بما يشبه احتقار الذات والتبرؤ منها، في ضرب من السكيزوفرينيا المرضية التي تصيب البشر حين ينكرون هويتهم، غير أن الغريب، هذه المرّة، ما رافق هذا التطبيع الرسمي من تبريراتٍ، ومن تبجّح إعلاميين في إشاعة أن فئات اجتماعية واسعة تساند هذه الخطوة المقرفة. وساهمت شبكات التواصل الاجتماعية، وكذا الإعلام المأجور في هذا التطبيع بشكل واسع، بالموازاة مع التحرّش بالفلسطينيين إلى حد العنصرية.
لا أحد يستطيع إقناعنا بأن مصر بعد التطبيع أفضل، وأن الأردن تبدّل حاله نجو الرخاء بعد تطبيعه مع الكيان الصهيوني
ستظل جهود المثقفين في مقاومة التطبيع متجهة إلى ثلاثة أبواب، نخشى أن يتسلل منها التطبيع هذه المرّة متبجّحاً: الأنظمة الرسمية العربية. دول صديقة، على غرار بلدان إسلامية "بعيدة" عن خرائط الهوية القومية وجغرافيا النزاع "العربي الإسرائيلي"، وبلدان أخرى تعاطفت مع القضية الفلسطينية، شكّلت تقليدياً، في الستينيات والسبعينيات، حضناً داعماً لمنظمة التحرير والعرب. نخب اقتصادية وثقافية عربية يمكن أن تنزلق، تحت ضغط أنظمتها الحاكمة، أو الحاجة والضائقة، إلى مسالك التطبيع المهينة. ولذلك تشكّلت مبادرات شعبية ومدنية كانت تحثّ على السير في مناهضة التطبيع وترسيخه قناعة خالصة لدى الفئات الواسعة.
تشكّلت مبادرات شعبية ومدنية تحثّ على السير في مناهضة التطبيع وترسيخه قناعة خالصة لدى الفئات الواسعة
علينا، أمام خطورة التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، أن نحتفظ، في أثناء السواد الحالك الذي يحيط بنا، بنبل المبادرات التي قام بها مثقفون عرب، متجاوزين خلافاتهم الإيديولوجية والسياسية، ومنها عرائض مضى (وقّع) عليها مئات من المثقفين، شعراء وكتاباً وفنانين، تندّد بالخطوة، وتعتبرها اعتداءً صارخاً على الحق الفلسطيني، وسجّلت أيضاً انسحابات عديدة لافتة من فعاليات ثقافية إماراتية تنديداً بهذا التطبيع، غير أن الأمر يحتاج مزيداً من الابتكار، حتى لا تظل عربة التطبيع تقتحم علينا معاقلنا الأخيرة التي خلناها منيعة: الثقافة. التحدّي الكبير هو استدامة هذه الهبّة، وتوسيع مداها، فضلاً عن ابتكار أشكالٍ غير معهودةٍ منها تكون أكثر فعالية وجدوى والتزاماً.