بعد أن وصل نقاش موضوع التعليم عن بعد إلى أوجه، وما صاحبه من تراشق، ما بين مؤيد ومعارض، وحرصاً على سلامة الطلبة، أو حرصاً على مخرجات التعليم في زمن كورونا، وفي رصد طويل محلياً وعالمياً، قررت أن أكتب عن ماهية التعليم الذي نريده لطلبتنا، وهل يواكب المتغيرات السريعة التي يشهدها عالمنا اليوم؟
جميعنا يعي أن انقطاع التدريس تدريجياً يؤدي إلى حدوث اضطراب في حياة الطلبة، وأهاليهم، ومعلميهم؛ فكل مدرسة تظهر فيها حالات إصابة بكورونا يتم إيقاف الدوام بها. فمن جهة ترغب الدولة في حماية الطلبة، ولكن من المهم تجنب حجر الطالب في المنزل كأسلوب وقائي، وتوفير مساحة مفتوحة وآمنة، لأنها تحسن من وضعه النفسي.
لعل أزمة كورونا جلبت معها متطلبات جديدة ومطلوبة لتطوير مستوى الطلبة والمعلمين على السواء، بحيث تطورت قدرات الطلبة وتعمقت مشاهداتهم وصقلت قدراتهم بل أصبحوا أكثر وعياً.
لهذا، فإن التعليم الذي نريده هو الذي يجعل الطلبة يبحثون بعمق عن هويتهم، فهذا الجيل لديه ميل أو هوس شديد في البحث عن هويته والمغزى من حياته، وأبرز هؤلاء الباحثين هم من فئة الشباب.
ولا بد أن يدرك المعلمون أن الطلبة في الفئات الأكبر عمرا لديهم الكثير ليقولوه، ومن يعاملهم كأطفال فإنه يفشل في كسب ثقتهم ومساعدتهم في تكوين الهوية الصحيحة، هذه الهوية بالطبع ليست تلك التي تركز على النفس وإنجازاتها، بل تلك التي تؤدي إلى محطة الخدمة الناكرة للذات.
مثلما نشأ نوع معين من التعليم أثناء الثورة الصناعية، فإن نوعًا جديدًا من التعليم ضروري للتعامل مع الحقائق التي نواجهها وسنشهدها
إن الطلبة في المرحلة العمرية اليافعة بحاجة إلى البيئة التي تعطيهم الدعم، تلك البيئة التي تحترم أفكارهم ووجهات نظرهم، ولا بد من الاعتراف بأن تعليمنا ونظام المدرسة لم يحلا "أزمة الهوية "، وهي أيضا نتيجة عدم قابلية معظم المعلمين لإدراك رشد الفرد الذي يحاول تجاوز الطفولة.
ففي عالم اليوم، تُرك الشباب على نحو متزايد بدون أي توجيه أخلاقي، حيث يكون التمييز بين الصواب والخطأ مفقودا، ومعيار السلوك الأخلاقي متدنيا من أجل أن يكون قادرا على القيام بالاختيارات الأخلاقية.
وما يحتاجه الطلبة الشباب تحديدا هو الانضمام إلى القوى البناءة في المجتمع، وهي المرحلة العمرية التي يتشكل فيها المدافعون المستقبليون للبيئة، بناة السلام، أبطال العدالة، المعلمون الناكرون للذات للبشرية. وهم فقط قادرون على عرض الشجاعة النموذجية في الدفاع عن نماذجهم المكتشفة الجديدة.
أما المحادثات المدرسية، سواء عن بعد أو وجها لوجه، فعليها أن تدعو الطلاب إلى التفكر ومعلميهم، معا، لأن فيها الكثير من طرح الأسئلة واستكشاف الأجوبة بطريقة يشارك فيها الطلاب في بناء وتنظيم المعرفة، فالطالب الواعي يحتاج إلى إجابات لأسئلته التي غالباً ما تكون فلسفية. هذا لا يغني بالطبع عن المحتوى الجيد للمادة التربوية، بعيدا عن رغبة مؤلفي المنهج في حشو الكلام الكثير والدرس الذي يعتمد على مفهوم واحد ذي النتائج المعروفة.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، نحتاج لتوفير نوع من التعليم الذي يساعد على إعداد الشباب لمستقبل مختلف في عالم مترابط عالميًا، فيه الكثير من التكهنات حول مستقبل الاقتصاد، في ظل انهيارات اجتماعية واقتصادية متوقعة، مع الاستجابة بخفة الحركة لتنوع الظروف على المستوى المحلي، وللقيام بذلك يتطلب الأمر مشاركة جميع الجهات الفاعلة كأنصار في هذه العملية، من المعلمين والطلاب والأهالي إلى المجتمعات المحلية.
من الواضح لأي مراقب موضوعي أن البشرية تمر بمرحلة انتقالية. المؤسسات التعليمية حاليا غير كافية في معالجة الطبيعة العالمية للمشاكل التي نواجهها، ومثلما نشأ نوع معين من التعليم أثناء الثورة الصناعية، فإن نوعًا جديدًا من التعليم ضروري للتعامل مع الحقائق التي نواجهها وسنشهدها، لأن المشاكل المعاصرة التي نواجهها هي مختلفة في طبيعتها وتعقيدها عن أي مشاكل واجهناها في الماضي.
إن الفهم الذي طال أمده لمكونات التعليم الأساسي غير كافٍ لتلبية احتياجات اليوم: القراءة والكتابة والرياضيات والاستعداد للوظيفة كلها مهمة، مثلها مثل مهارات المستوى الأعلى كالتفكير النقدي وحل المشكلات والتحليل. ومع ذلك، يجب أن تلعب بعض الصفات الآن دورا أكثر بروزا في نظامنا التعليمي، إذا أردنا ضمان أن تعود فوائدها على البشرية ككل.
ويشمل ذلك القدرة على التمييز بين الحقيقة والباطل، وتحديد الاحتياجات ووسائل تلبيتها، والتخيل بشكل أفضل والعمل على خلق حقائق جديدة، وتقديم مساهمات نكران الذات في المساعي الجماعية، كما يجب أن يتضمن هذا التعليم بُعدًا أخلاقيا للاستفسار عن القيم التي تقود عملية صنع القرار.
باختصار، يجب أن يوجه التعليم قدرات الروح البشرية للعمل من أجل تحسين الجميع، وتمثل المواطنة العالمية إحداها، فبينما تشارك وتتعلم من تلك التي تعزز قدرتنا على الاتحاد والنمو، تعزز المناهج دور جميع الأفراد والمجموعات في تقديم مساهمات حيوية للنسيج الغني الذي هو الإنسانية جمعاء.
فما نحن في النهاية إلا جنس بشري واحد ونجاحنا وفشلنا جماعيان. إن هذا التعليم بالذات هو الذي يمكن أن يطلق القوى الناشئة للجماعة ويوفر مجموعة من الأدوات والنماذج اللازمة لرؤية أنفسنا والآخرين كجزء من مسعى موحد.
ولتطوير بعض المواقف والصفات والمهارات والقدرات، ولاستكشاف المعرفة المرتبطة بهذا التطوير، لا نريد صورا متجانسة لجميع الطلبة، لا نريد أن نملأ أوعيتهم بكمية معينة من المعرفة. أما النشاط التربوي فيجب أن يكون في جوهره تجربة غير مقيدة وحرة، وعليه أن يكون تجربة مفرحة تعطي أجنحة للطلاب للتحليق في فضاء جديد ولأعلى. والهدف هو توسعة الفضاء وفتح أبواب جديدة لهم ليذهبوا نحو أماكن كان من الصعب الوصول إليها من قبل.
نريد أن نعطيهم الحرية في الاستكشاف والمعرفة، أليس ذلك تقييماً كافياً لنجاح النشاط التربوي؟.. وأخيرا فإن المعلم بأماتنه ونزاهته عليه أن يجعل من التفكير النقدي أداة لتوليد المعرفة لدى الطالب، وأن يعطيه مساحة من الحرية للانفتاح على الآخر وتوجيه الأسئلة ونقدها.