يحنّ بعض الموريتانيّين إلى حياة البادية، ويحرص هؤلاء على عيش التجربة لبعض الوقت، خصوصاً خلال فصل الخريف. تدفعهم الرغبة إلى قضاء الوقت في الطبيعة والاستمتاع بالعادات والتقاليد، إلى الانقطاع عن الحياة العصرية
فوق مثلّث رملي رخو تحيط به المياه العذبة، حيث تنثر الخضرة لونها الناعم على امتداد البصر، نصبت عدة خيام يقطنها مواطنون قادمون من العاصمة نواكشوط وبعض المدن الأخرى، من أجل الاستمتاع بمناظر الخريف الزاهية التي تستقطب معظم سكان المدن مع حلول موسم الأمطار من كل عام.
وعلى مقربة من الخيام المنصوبة والمعروفة محلياً باسم "لفريك"، يتفقد شياخ ولد عابدين قطعان الماشية قبيل الغروب، وينادي على رفاقه من أبناء "لفريك" لجمع القطعان والتوجّه إلى الخيام، في الوقت الذي تهمّ القطعان نفسها بالتوجه إلى أماكن المبيت "لمراح"، بعد يوم أمضاه الشبان يراقبون صولات وجولات الضأن والماعز والنوق وهي ترعى في الصحاري الممتلئة بالكلأ بعد سنة من الجفاف أدت إلى نفوق آلاف رؤوس المواشي في موريتانيا.
يقول ولد عابدين إنه ظل يحنّ لحياة البادية مع حلول موسم الأمطار، ويطمئن أكثر كلّما تجول بين الخيام في أعماق الصحراء الموريتانية برفقة أفراد أسرته، وعدد من الأسر الأخرى، التي فضلت خوض غمار الترحال والعودة للعادات والتقاليد القديمة في جو من الهدوء بعيداً عن ضجيج المدن ومشاغلها.
يضيف لـ"العربي الجديد": "لا أكترث للاستماع إلى المذياع أثناء العودة لحياة البادية وزهوها، مخافة أن يعكّر مزاجي هول الأخبار الواردة من العواصم العربية أو الغربية. كما لم أستعمل الهاتف أثناء تلك الفترة التي يخصصها الموريتانيون للعودة لحياتهم القديمة، والابتعاد عن كل ما هو قريب من المدينة، وما تحويه من أشياء سلبية بنظر السكان البدو الذين يعيشون حياة سعيدة هادئة لا يشوبها ما في المدينة من منغصات".
على مشارف كينو، أحد الأودية في ولاية الحوض الغربي، ينصب محمد ولد الشيخ خيمته، وهو العائد من مدينة نواذيبو، بعد فترة من العمل في شركة المناجم الوحيدة في البلاد، وهمه أن يمضي فترة الخريف في أجواء البادية برفقة أفراد أسرته، حيث العودة إلى أجواء البادية وركوب الجمال والحمير، وتشييد خيمة أصيلة تحوي كافة المتاع. هذا ما كان يحلم به وأسرته، وهم يسكنون المدينة التي تختلف كثيراً عن حياة البداوة الممتعة.
يرى ولد الشيخ أنّ الكثير من الموريتانيين يستغلّون فصل الخريف من أجل الترفيه عن أنفسهم، والانغماس في مزاولة حياة البادية من رعي الأغنام، والسير خلف أخفاف الإبل، سعياً إلى التخلص من إكراهات المدينة وما تخلفه من تعب نفسي لا يجد الموريتانيون وسيلة للتخفيف منه سوى العودة للحياة القديمة، ومنافسة سكان البادية الرحل في حياتهم التي لا مجال فيها لمشاهدة الفضائيات، أو الاستماع للمذياع، أو البحث عن جديد الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعي.
ويؤكّد ولد الشيخ لـ"العربي الجديد"، أن غالبية الموريتانيين يملكون مواشي ويتركونها في البوادي لدى الرعاة. وحين يأتي الخريف، تتسابق العائلات إلى الريف للاستمتاع بتساقط الأمطار، وخضرة الأرض التي تزهو بالنباتات المختلفة الأنواع والأشكال، عدا عن مناظر المياه في الأودية والسهول.
من جهته، يشير عبدوتي ولد محمد، أحد سكان منطقة "أكدرنيت" في الحوض الغربي، شرق موريتانيا، إلى أن جمال الطبيعة وزهو مناظرها في الخريف، يأسر العائلات التي تتحدر من المنطقة، والتي تسكن المدن الكبيرة، فترغمها على العودة والاستمتاع بحياة البادية التي ما زال الموريتانيون يتعلّقون بها ويمضون الكثير من الوقت في الصحاري المنتشرة في المنطقة، التي تتزين بالخضرة. كما تملأ مياه الأمطار معظم الأودية والوهاد (الأَرض المنخفِضة)، والقيعان (أرض مستوية).
يبدأ فصل الخريف في موريتانيا نهاية شهر يوليو/ تموز، ويستمر حتى شهر أكتوبر/ تشرين الأول. لكن العائلات الموريتانية لا تبدأ الاستعداد للسفر إلى أعماق الصحراء والاستمتاع بالخريف إلا منتصف شهر أغسطس/ آب. ويكتمل وصول العائلات الراغبة في قضاء عطلة في البوادي، حيث تعج الصحاري القريبة من الأرياف بخيام الفارين من ضجيج المدن في الخريف.
ويعد فصل الخريف محبباً للأطفال الذين يستمتعون باللعب فوق الرمال، وقرب برك المياه العذبة التي تعد وجهة للاستجمام للسكان البدو.
وفي ما يتعلق بالطعام، فإن اللبن الطازج مع اللحم يعد من الوجبات الأساسية. كما يبقى الأرز ووجبة "السكرة"، المعدة من الفارين، من أهم وجبات سكان البادية. ويخلص ولد الشيخ في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن حياة الرعاة وأحاديثهم أثناء انشغال القطعان بالكلأ جميلة، ويحرص على ترك سيارته رباعية الدفع عند الخيمة، وتتبُّع أثر الرعاة من أجل الاستماع إلى أحاديثهم النادرة، والتي تنحصر بتتبع أخبار الماشية والخبرة في اقتفاء أثرها ومعرفة كل ما يتعلق بها.
نقلا عن " العربي الجديد" بتصرف