رويت لصديقي الأخ العزيز حكاية الأختين الشغالتين اللتين تغربتا في مطلع التسعينيات في عاصمة بلد عربي بفارق بضع كيلومترات، وكانتا محتجزتين تتعرفان أخبار بعضهما البعض في مفارقة مذهلة عبر إرسال الرسائل البريدية لأهلهما في بلدهما، فذهل واستغفر وحوقل، وتفضل علي بتوضيح كيف تتصرف والدته مع خادمتها الأندونيسية، قد لا تصدق أخي القارئ إن مجرد تسميتها بالخادمة مرفوض، ويتم تكليفها بالأعمال بصيغة الطلب لا بصيغة الأوامر، وحتى في التسوق يفرض لها نصيبها من المشتريات، بل حتى النداء عليها ومخاطبتها، لا يتحققان إلا عبر أحب الأسماء إليها بالتودد في مناداتها بأم محمد.
ولك أن تتصور كيف يتم تعريفها على الأخريات، فكل تقديم يستند لتوصيفها بفرد لا يتجزأ من العائلة، لها صلاحيات ونفوذ تستمدها من الأم، وبإمكانها أن تبدي غضبها حيال ارتكاب المخالفات، وأن تفضفض عن نفسها في جلسات تجاذب أطراف الحديث، ويتم إكرامها بمرافقة العائلة الكريمة في العمرة والحج، وشراء المستلزمات، في حين تم تحديد أوقات دوامها، وعلاوة على ذلك لها إجازة شهر تزور خلاله أهلها في إندونيسيا، وتتواصل معهم على مدار الساعة عبر شبكة التواصل، ولها استقلالية في غرفتها الخاصة بعد انتهاء دوامها مساءً.
هل يمكن تصور إنه في القرن الحادي والعشرين يتم استعباد الأفراد وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، لماذا كل هذه العجرفة والغرور والكبرياء عند التعامل مع الخادمات، أليست إنسانة؟ أليست مخلوقة مثلنا مثلها من لحم ودم؟ ألا تمتلك الأحاسيس والمشاعر، أليس لها كرامة يفترض أن تصان؟ لم لا نراعي كونها إنسانة ابتعدت عن أطفالها وزوجها وأهلها، وتغربت سعيا لعيشة هانئة مطمئنة تحظى فيها بطيب المعاملة، لا أن يتم التعامل معها كآلة حديدية، مجردة من الأحاسيس والإنسانية، ناهيك عن ضربها وحرقها، وقص شعرها كنوع من أنواع العقاب.
وفي الواقع فإن ظاهرة الخدم قديمة متجددة، مع زوال مفهوم الأسرة الممتدة، وظهور الأسرة النواة، فتزايدت المسؤوليات والأعباء اليومية، وتركت تربية الأطفال للخادمة لكونها أحد أفراد الاسرة، مما يتيح للأم قضاء وقت إضافي مع الأهل، وتتعامل الخادمة مع نوعين من ربات المنازل: الطيبات اللائي هن في قمة التعامل الديني والإنساني، وأخريات آمرات ناهيات متعنتات بكل قسوة وشدة وجبروت وإهانة وتقريع، ينظرن للخادمة كبرستيج للتنافس، ومظهر اجتماعي وكماليات تبين المستوى الاجتماعي والتباهي به، واستعباد الأنثى للأنثى، بالسير كالطاووس والخادمة خلفها تحمل الحقائب في سخرة ليل نهار، بل إن البعض تلقي بعقدها النفسية واضطهاد زوجها على خادمتها، وبدورها تضطهد الخادمة الأطفال جراء تلك التصرفات التي صنعت منها شخصية منتقمة، تسرق وتحرق وتخرب كردة فعل نفسية، في سلسلة من العنف المضاد.
هذا التفاعل البشري بين مجموعات بشرية تشكل المجتمع الدولي، توفر فرصة ذهبية للتعارف والاطلاع على تراث الشعوب، ويتيح هذا العمل للأم التفرغ لعدة متطلبات، وتتبع أعمال البيت، ومراقبة تنظيف الخادمة تنظيفها للغرف الخاصة، وجعل عملها مقصورا على المطبخ وتنظيف السلالم والصالونات ومدخل البيت.
نظرة عامة
يجد البعض صعوبة في تقبل الخادمة، فيعاملها بالازدراء والعجرفة والتعالي، وإشعارها بالإذلال والمهانة والاحتقار، وتناسي أنها قبلت بهذا العمل بسبب زوج مريض لا يستطيع أن يعيل العائلة، أو أن يوفر لأطفاله ما يحتاجونه، بدافع العوز والفقر والحاجة والظروف المعيشية، بعد أن ضاقت بهن السبل، فلم يجدن الحل إلا في امتهان تلك الحرفة القاسية التي تعرض الكثيرات منهم إلى الظلم، ولذا فعملها يعد مهنة شريفة بدلاً من التسول وانتظار الصدقات، على ألا يتنافى مع ضوابط الإسلام التي يعرفها الجميع.
المعاناة اليومية تبدأ حينما تخطئ الشغالة مع ربات البيوت أو مع الأطفال، وقد تتسبب بالفوضى بإهمال النظافة، وإبداء عدم الاستعداد لتعلم النظام، وتعليم الأطفال سلوكيات وعادات قريبة أو بعيدة عن قيم المجتمع، وقد تخل بالمواعيد وتتدخل فى شؤون البيت، ومن المعلوم أن ربة المنزل هي الشخص الوحيد الذي يتعامل معها بصورة مباشرة، والخطأ الذي لا يغتفر إن هي أظهرت رقة مبالغة فيها، قد تلفت نظر الزوج، وتغضب في اللحظة نفسها ربة البيت.
خبايا المهنة وشواهد المأساة
بالإضافة للاستعباد والإذلال والإهانة الجسدية والمعنوية، قد يتم حرمانها من النوم في الأماكن المخصصة، وإلزامها بالنوم وراء الأبواب وفي الممرات، وأكل فضلات الطعام، وحمل الحقائب الثقيلة بعد التبضع من المحلات الفارهة، وعدم توفير الرعاية الصحية، وتفاوت التعامل معها إن كانت مغتربة بالفصل بين حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، وقد تحرم من الإجازة ومكافأة نهاية الخدمة، واتهامها زورًا بسرقة أهل البيت ومجوهراتهم، وفي كثير من الأحيان احتجاز الأوراق الثبوتية وجواز السفر، وقد تتعرض للسب والشتم والتعنيف والإهانة والظلم حين يتم تكليفها بأكثر من عمل في وقت واحد، أو بأعمال ليست من مهامها على غرار تنظيف حديقة المنزل، وعبر صور متعددة من الاضطهاد والعنف والأذى وجرح المشاعر، وتهديدها بالطرد دون رحمة وشفقة، وتعمد إيقاظها في الصباح الباكر، والمقايضة بإجبارها على قبول اللباس والمواد الغذائية كمقابل للراتب، أو تخفيضه لأدنى حد، أو بإجبارها على الخدمة في منازل الأقارب والجيران، وهذه انعكاس للاتجار بالبشر.
تشريعات العمل وحقوق العمال
"عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: خدمتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- تِسع سنين، فما أعلمُه قال لي قَطُّ: لم فعلتَ كذا أو كذا، ولا عابَ عليَّ شيئًا قط"رواه مسلم، وطالب الإسلام بحقوق الجارية في عدم تكليفها ما لا تطيقه، وحث على أن يُعطى العامل عمله قبل أن يجف عرقه.
وفي واقع الحال فإن قانون العمل يعرف العامل بأنه من يقوم بالعمل مقابل أجر سواء أكان ذكرا أم أنثى، وهذا التعريف لم ينل الرضى حين اعترض البعض على انضواء الخادمة تحت قانون العمل، لكونها تعتبر جزءا من الأسرة، وهذه مقولة حق أريد بها باطل، فعمالة الخادمات مسؤولية الجميع من عدة فئات كالوسطاء والسفارات والمجتمع المدني والصحافة والإعلام وحتى المؤسسات التي تساعدهن، مثل منظمات حقوق الإنسان ومنظمات العمل الدولية، والهيئات الدولية التي تناهض العبودية الحديثة، والمؤسف أن لا توجد نقابات خاصة تضمن حق التقاضي حين يتم اللجوء إلى القضاء.
في محاكمات يفترض أن تكون حرة نزيهة، مع مساندة بفعل إقرار تشريعات عادلة في دول العالم، لتزول بالتالي النظرة الاحتقارية للخادمات، وتزداد مساحة الوعي بالحقوق والواجبات، وإمكانية اللجوء إلى سفارات بلدانهن، في حالات الظلم، وإنه لمن الواجب أن نجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوتنا في التعامل مع المساكين والفقراء.
كاتب اردني