الشيطان في موريتانيا : رمز الجمال والجاذبية

4 فبراير, 2020 - 11:38

 في موريتانيا، تُخفي اللهجة العامية المستخدمة "الحَسّانية"، الكثير من التناقضات والمفارقات، تؤثر في الوقت نفسه على الناطقين بها في علاقاتهم فيما بينهم و تنعكسُ على تعاطيهم مع أمور حياتهم اليومية. في موريتانيا تتجسد في اللغة أنماط تّعبير مختلفة حاملةً معها تناقضات ومفارقات.

يشكّل الأدب الشعبي الحَسّاني مرآةً صافية تعكس بوضوح ملامحَ هذه اللهجة في بعدها الجمالي، المُتجاوز لغرض التواصل، ليتيح لمستخدميه كنايات واستعارات وتشبيهات غير مألوفة.

ومن هنا سيأتي "الشيطان" الذي يُلقي بظلاله على هذا الأدب في أغراضهِ الغزلية. الشيطان في الحسانية لا يُشبه الصورة النمطية عن الشياطين، فالشيطان في الحسانية هو رمز الجمال والجاذبية والحب، بل وقمة التّعبير عن المشاعر. فعندما توصفُ المرأةُ بأنّها "مليئة بالشيطان” فهذا يعني أنها للكمال أقرب، وغالباً ما يأتي هذا "الشيطان" بنفسٍ إيروسي مُشبع بالدلالة، وهو نفسـه "إبليس" الذي أخرجته الفنانة "حورية بنت النانّة" من عالمه الداخلي الضيق، وأطلقت العنان له ليرتع في الخارج، من خلال أداء الأغنية الشّهيرة التي صدحت بها في تونس مثلاً، حيث غنت لأحد الشعراء الذين كتبوا في هذا الأدب:

"قْبيل الدحميس بنتي/ وابلگ ذاك ابليس

يحرق بَيّ ابليس وأنتِ/ وقْبيل الدحميس"

و في هذه الكلمات التي لقيت صدىً واسعاً، يخاطب الشاعرُ المرأة َالمُولع َبها قائلاً إنها ظهرت (بانت) في المساء (الدحميس) وأثار ذلك غرور "إبليس" الذي هو "الشيطان" طبعاً، أي أنها ظهرت بكامل جمالها وجاذبيتها، فلم يتمالك الشاعر إزاء هذا المنظر الفاتن في سويعات الأصيل من أن يسب أباها -هي و"إبليس" والمساء- (يحرق بَيّ ابليس...) في ذمٍ ظاهر هو قمة المدح في باطنه

الغزل بالهجاء!

 

السَب، كما في المقطع السابق، ينقلنا إلى نمط تعبيري آخر أكثر تفصيلاً في الذم، وهو نوع مطوَّر مِما يُعرف في الأدب العربي بـ"المدح بما يشبه الذم"، لكن ما نحن بصدده هنا هو غزلٌ عن طريق الذم نفسِه، وليس "بما يشبهه" فقط، ويسمى هذا النمط الغزلي في اللهجة الحسانية بــ"المِقْـفِي" (أي المعكوس أو المقلوب، مشتقة من "القفا"، وتنطق القاف في هذه اللهجة عموماً مثل الجيم المصرية أو الكاف المعقودة "گ") وهو من أساليب التعبير الشائعة في الأدب الحساني، نقرأ لأحدِ الشّعراء:

"قولي لي، راجل جاك/ شيدوّر هُوّ ذاك؟!

إنتي مانك هاك/ امْرَة گاعْ سْمينة

وأوْعَرْ من شي مَلْقاك/ ودْخَيْنة وشْوَيْنة

ورْوَيْصك الـمْشكْرَد/ حَدّو لك الوْذينة

وفَّيْمِك كل بْلد/ منُّو فيه سْنينة"

فالشّاعر لا يعني أبداً ما يُفهم من ظاهر النصّ الذي يخاطِب به محبوبته باستفهام استنكاري، متسائلاً: ما الذي يريد منها أي رجل؟، فهي -كما يقول- ليست امرأة سمينة (السمنة في التقاليد الموريتانية من معايير الجمال) والحصول على لقاء غرامي معها (مَلْقاها) طريقُهُ وعر (أوْعَرْ من شي) وليس بالأمر الهين، وهي نفسُها باهتة البشرة رمادية مثل لون الدخان (دْخَينة) وقبيحة (شوينة) وشعرها خشن (رْويص مْشكرد، ويعبّرون بالرأس "الراص" عن الشَعر) وهو أيضاً شَعر قصير جداً لا يتجاوز أذنها (لوذينة) وليس في فمها إلا أسنان متفرقة (وفمك كل بْلد منو فيه سنينة) ومعظم الكلمات السابقة أتى بها الشاعر بصيغة التصغير، إمعاناً في الذم (دخينة، شوينة، افَّــيْمك، رويصك، لوذينة، سنينة..)

كيف يمكن فهم هذا النص الهجائي على أنه غزل؟

من المستحيل تقريباً في الفضاء الناطق بالحسانية، أن يهجو الرجلُ امرأة أصلاً، فذلك يعد قدحاً ونقصاً كبيراً في رجولته بالمفهوم التقليدي، لذلك فأي نص هجائي موجّه من رجل لامرأة سيكون من البديهي بالنسبة للجمهور أن يؤوله باطنياً بتحويله من الذم الظاهري إلى غزل، خصوصاً إذا كانت المقصودة في النص معروفة في الواقع بالجمال والجاذبية ونحوها من الصفات البعيدة عن الكلمات في المقطع الشعري. كل شاعر مرتبط بمحبوبة معينة تلهمه، والمرأة المعنية بهذا النص تحديداً معروفة، على الأقل عند الجمهور الذي يخاطبه الشاعر، وكذلك في نصوص "الغزل الهجائي" الأخرى غالباً ما تكون المعنية بالغزل معروفة.

الضمير الغامض!

لطالما اشتهرت المرأة الموريتانية بمكانتها الكبيرة وحضورها الطاغي في المجتمع، خلافاً للوضع التقليدي لنظيراتها العربيات، ولم يأت ذلك من فراغ، فالمجتمع الموريتاني كان لقرون ٍ قبل الهجرة العربية الحسانية إليه في القرن الرابع عشر الميلادي، مجتمعاً "أمومياً" (تقوم فيه الأسرة على الأم لا الأب) هذا النظام اندثر مع الفتح الإسلامي غير أن عناصر روحه لا تزال حاضرة في عادات المجتمع وقيمه، وهو ما قد يفسر -ولو جزئياً- المكانة المتميزة للمرأة الموريتانية.

وليس غريباً إذا التقيت بامرأة موريتانية، أن تسترسل في الكلام معك لساعات لتحدثك عن شخص غامض ولن توضح لك هويته بشكل صريح، وستكون كل إشاراتها إليه بضمير الغائب (هو يريد، هو أتى، هو قال، هو فعل...الخ) أو بتعابير عامة تنطبق على أي شخص (مثل: امْنادم "ابن آدم")

فإلى مَن يعود هذا الضمير الغامض؟

ليس هذا الشخص الخفي سوى زوجها، فليس مسموحاً في التقاليد الموريتانية أن تتحدث المرأة عن زوجها أو تناديه باسمه الصريح علناً، إذ يُعتبر ذلك نوعاً من الوقاحة أو قلة الحياء.. فلابد إذن أن تلجأ إلى الضمائر والكنايات لكي تشير إليه، عكس ما هو سائد في مجتمعات عربية أخرى يمتنع فيها الرجل نهائياً عن ذكر اسم زوجته، ويعتبر ذلك عيباً وعاراً عظيمين يلحق به إذا صرّح باسمها أمام الناس، بينما في موريتانيا تمتنع المرأة عن ذكر اسم زوجها.

هل يتفق ذلك مع حضور المرأة الموريتانية البارز وشخصيتها؟

قد يكون هذا "اختراقاً عربياً" للعادات الأمومية القديمة،فحضور قيمة الحياء المبالغ فيه للمرأة دخيل على العادات المحلية، على الأقل في هذه الجزئية الشكلية.

ويمكن أن يُفهم، بشكل آخر، على أنه استمرار لحضور المرأة الطاغي، على نحو ما، فهي في النهاية -على المستوى الخطابي- قامت بــ"محو" الوجود الظاهر للرجل واعتمدت بدلاً منه وجوداً مستتراً رمزياً.

اغتيال ضمير المتكلم

وفي بعض المناطق، يكاد ضمير المتكلم أن يختفي وكذلك "ضمائر الملكية" وكلّ ما يُعبر عن الـ"أنا" بشكل صريح، من خلال ما يُعرفُ بـثقافة "الديمين" نسبة لإحدى القبائل الموريتانية (أولاد ديمان). فـ"الديماني" (أو "المدّيمن" أي المنتمي لهذه الثقافة، وإن لم يكن من أفراد تلك القبيلة بعينها) يكتفي في حديثه لالتلميح، ويبتعد عن المباشرة عموماً، ويمكنُ في هذا الصّدد الاستئناس بالقصة الشعبية التي أوردها الكاتب الصحفي الرّاحل حبيب ولد محفوظ، إذ يقول إن رجلاً ديمانياً جاء إلى طبيب وهو يشكو من آلام في عينه اليمنى، لكنه لم يخبره أيهما المُصابة، إنّما قال له فقط: "العين تؤلم" (بدلاً من: عينـ"ـي" اليمنى تؤلمنـ"ي")، فبدأ الطبيب التقليدي بعلاج العين اليسرى، فاقتلعها وكَوَىٰ مكانها، وطلب منه أن يعود إليه لاحقاً لينظر في أمر الأخرى، وحين عاد، سأله الطبيب هل شعر بتحسن بعد العلاج أمس؟، فأجابه أنّه يَعتقد أن العين التي عالجها ليست هي المقصودة، لكنه يرى أن الأمر مجرد خطأ طفيف، ربما سببه قصر المسافة بين العينين، وعندما عاتبه الطبيب على عدم إخباره بذلك، طلب الرجل منه العفو قائلاً إنه في ذلك الوقت لم يرد إزعاجه لأنه رآه مشغولاً جداً في علاج العين!

قد تكون القصة بالطبع أسطورية، لكنها تعكس المدى الذي قد يصل إليه الغموض أحيانا في أساليب الخطاب المحلية.

"سُعاد".. هادمة اللذات

يعد اسم "سُعاد" من أجمل وأشهر الأسماء العربية، فهو مشتق من السعادة، ذلك المعنى الذي لم يزل الإنسان في بحث دائب عنه، وهو أحد أكثر الأسماء إلهاماً لشعراء العربية منذ عهد ما قبل الإسلام حتى عصرنا الحديث. بدءًا بالأعشى (بانت سُعادُ وأمسى حبلُها انقطعا) وكعب بن زهير وقصيدته الأشهر (بانت سُعادُ فقلبي اليوم مَتْبُول) مروراً بالشاعر الصوفي اليمني عبد الرحيم البرعي (ضَرَبَتْ سُعادُ خيامَها بفؤادي) وكلها قصائد حاضرة في الثقافة التراثية السائدة في موريتانيا، خصوصا في لمدارس الدينية التقليدية.

وسعاد ليست بالضرورة شخصية حقيقية في أحاديث الشعراء،فهي رمز  للمحبوبة بشكل عام، أياً كان اسمها الحقيقي.

لكن هذه الرمزية العريقة في التاريخ العربي لم تمنح السيدة سعاد حصانة من توظيفها في معنىً آخر معاكس تماما في اللهجة الحسانية، فإذا قيل إن "سُعاد" قد حلّت بعائلة ما، فذلك تعبير عن حلول الفتور العاطفي والملل الزوجي، فيقال إن الرجل "مْسوعد" أي أصابته سعاد هذه بسهامها، فأصبح يَنفر من زوجته.

قد تكون لهذا المصطلح في الأصل علاقة بمكانة سعاد وصفاتها الجمالية التي أسبغها عليها الشعراء، فكأن الرجل هنا أصبح يرغب في امرأة أخرى "سعاد" فانصرفت رغبته عن زوجته، بتأثيرٍ حضور تلك المرأة الأخرى في قلبه. وفي بعض الأساطير الشعبية المحلية سعاد هي جنّية تحول بين المرء وزوجه.

لكن هذه التفسيرات ليست حاضرة في الاستخدام المعهود لهذا المصطلح، فالمعنى الذي يعرفه ويستحضره معظم الناطقين باللهجة الحسانية عند استعمال كلمة "سعاد" هو أنها رمز للملل الزوجي بعكس سعاد في الخطاب الشعري العربي (المحبوبة) وبعكس باعثة البهجة “سعاد” التي يتبارك أهلها بها حين ينادوها. سعاد ليس اسماً شائعاً في موريتانيا ولا تعني السعادة بأي شكل بل باختصار تعني الفتور العاطفي.

وما تُخفي الحسانية أعظم!

المصدررصيف 22 :