تجد الغناء والمغنين، كما تجد رجال الدين والشعراء.. كل منهم يعيش الحياة طريقته.. لا تسمع صوتا سوى صوت الأدب والفن يخيم عليهما الحب.. إنه شارع المتنبي.
يجتمع فيه كل يوم جمعة، من مختلف محافظات العراق عدد كبير من المثقفين، والفنانين، والمهتمين، للاطلاع على آخر الإصدارات من الكتب وما يحتاجونه للقراءة.
يقع شارع المتنبي في وسط بغداد قرب منطقة الميدان وشارع الرشيد، ويعتبر السوق الثقافي الأكبر في العراق بصورة عامة وفي بغداد خاصة.
يختصر ثقافة البلد، حيث تزدهر فيه تجارة الكتب بمختلف أنواعها ومجالاتها، وفيه مطبعة تعود إلى القرن التاسع عشر، ومكتبات تضم كتباً ومخطوطات نادرة إضافة إلى بعض المباني القديمة، كمباني المحاكم المدنية قديماً التي يطلق عليها الآن "القشلة"، وفي نهايته يقع مقهى الشابندر التراثي.
اشتهر الشارع بازدهار مكتباته واحتضانه لأعرق المؤسسات الثقافية، وأطلق عليه اسم المتنبي في سنة 1932 في عهد الملك فيصل الأول تيمنا بالشاعر أبو الطيب المتنبي الذي نصب له تمثال في الشارع نفسه مؤخرا.
يعتبر شارع المتنبي تاريخا حافلا بذاكرة الثقافة العراقية، وبين طياته ذكريات تسطر عراقة هذا الشارع، فهو مكان يجعلك في حالة دهشة دائمة كلما زرته. مفعم بالجديد والقديم، وبالمتروك والمنسي أيضاً، فهو أشبه ما يكون بالفلكلور الثقافي.
يقول الصحافي العراقي محمد محي الموسوي "الشارع عبارة عن معرض دائم للكتاب يتجدد كل أسبوع، فأنا كصحافي وطالب للدراسات العليا في الإعلام، أجد أغلب مصادر البحث في العمل أو الدراسة متوفرة في مكتبات الشارع الذي يحتوي على مراجع وكتب من مختلف بلدان العالم. وأحمد الله على وجود شارع المتنبي في العراق، وستبقى بغداد تقرأ رغم الصعاب ولبنان يطبع والقاهرة تؤلف".
الشارع الذي لا يتجاوز طوله الكيلومتر الواحد تعرّض في عام 2007 لهجوم بسيارة مفخخة، سقط فيه العشرات بين قتيل وجريح، واستمر دخان الحرائق التي التهمت المكتبات التاريخية وعدد من الضحايا، يغطي السماء بعد أن تحول إلى ركام وأنقاض.
ويروي الشاعر العراقي عباس حسين حادثة لن ينساها أبداً فيقول "كنت في المرحلة الأخيرة من دراستي الإعدادية، وقتها شاهدت أستاذ اللغة العربية وهو شاعر أيضا، يدخل غرفة مدير المدرسة، ثم خرج مسرعا ولحقه المدير يصفق بيديه، قائلا بصوت عال "يبدو أن أستاذ اللغة العربية قد جن تماما، قدم لي طلب إجازة ليومين، قال إنه سيذهب إلى شارع المتنبي يريد استنشاق رائحة أخوته الممزوجة بالدخان". وأصبح جنون أستاذ اللغة العربية درسا مهما في حياتي".
أعيد افتتاح الشارع سنة 2008 وعاد قبلة العراق الثقافية التي يتنفسها أبناؤه رغم المصاعب التي مرت ببلادهم على مدار السنوات الماضية.
مدير دار قناديل للنشر والتوزيع حسين مايع يصف شارع المتنبي، فيقول "هو ليس سوقا للكتب تفوح منها رائحة الورق القديمة التي تباع وتشترى وتهدى فحسب، فأجواء الشارع يتحسسها ويتذوق جمالها من دخل مقاهي الشارع التراثية والتقى بأعلام البلد وسمع أحاديثهم المتنوعة، وفي أزقته الخلفية حيث نجد أحفاد زرياب، العوادين، صناع آلات الموسيقى، الذين يدعونك عبر أنغامهم الساحرة إلى زيارتهم فيجعلونك تحث الخطى نحوهم وأنت على أبواب الشارع".
وفي المتنبي وجواره ترى أشهر مطاعم بغداد الشعبية كمطعم ابن سمينة، والأخلاص، وأم كلثوم، وأبو حسين والعبارة وغيره من المطاعم، فضلا عن باعة الشاي المهرة الذين يتفننون بتحضيره كأبو يعقوب، ورمضان وآخرون.
ولأحاديث المارة في شارع المتنبي واستفساراتهم ميزة خاصة، فبالإضافة إلى التظاهرات الثقافية والسياسية واللقاءات والبرامج التلفزيونية والحملات المدنية والنشاطات الاجتماعية، فإن أجمل ما في شارع المتنبي هي القاعات التي سميت على أسماء عمالقة الفكر والثقافة في العراق، فهناك قاعات باسم نازك الملائكة، وعلي الوردي، وجواد سليم، ومصطفى جواد، وحسين علي محفوظ، وألف ليلة وليلة، والشناشيل.
" تايم لاين "