«الأتاي».. ثقافة الإمتاع والمؤانسة في موريتانيا

14 يناير, 2019 - 10:20

لا تكاد تحتفظ لنا المصادر التاريخية بشكل دقيق بأول ظهور للشاي في موريتانيا، لكن منتصف القرن التاسع عشر على الأرجح شهد تعاطياً له، جراء التواصل الحضاري بين موريتانيا ومحيطها العربي، وإن كان هذا تم أولاً في نطاق محدود.

وقد ذكر الباحث سيدي أحمد الأمير، نقلاً عن المؤرخ المختار بن حامد، عن الباحث الفرنسي المهتم بالشأن الموريتاني ألبير لريش، أن أول دخول للشاي إلى موريتانيا تم على يد عبد المعطي السباعي، في حدود 1858 1875 وكان عن طريق المغرب. 
إن بداية ظهور الشاي في البلاد هي قصة بدايات أي جديد، يكون له مناصرون مرحّبون به، ومعارضون منتقدون له، ومتحفّظون ينتظرون لمن ستكون الغلبة ليكونوا في صفّه. إن كلمة الشاي أو «أتاي» كما يسمى محلياً، تتجاوز في مدلولها الحقيقي حدود مشروب يومي بذاته، لتُحيل إلى عالم رحب من القيم الاجتماعية والثقافية، مرتبط بالإمتاع والمؤانسة والضيافة.

لكن ما هو الشاي الموريتاني أولاً، وهل يمكن التعرف إليه عن قرب؟
عندما نتحدث عن الشاي ينصرف الذهن إلى مكونات أساسية ثلاثة، ماء، وسكّر، وورق، (شاي)، وفق منهج محدد. يتم إعداد الشاي الموريتاني قديماً بطريقة خاصة، تقوم على غلْي الماء على فحم متقد، ثم وضع الشاي الأخضر في كأس صغيرة، وإراقة الماء الساخن عليه لتنظيفه أولاً (الشلالة)، ثم صبّه في الإبريق وإراقة الماء الحار عليه حسب عدد الندماء برويّة وتمهّل هذه المرة، ثم تحليته بالسكر وصبّه بين الكؤوس والإبريق مرات عديدة حتى يمتزج السكر بالشاي (الورقة)، ثم توزيعه على الندماء بعد ذلك.
وللموريتانيين قديماً طقوس محددة تمثل قوانين للشاي يجب التقيّد بها عند إعداده، ويمكن التعبير عنها اختصاراً ب«الجيمات» الثلاثة، وتعني «الجمر» و«الجماعة» و«الجرّ». فلا شاي دون نار يُغلى عليها أصلاً، ولا شاي مكتمل الأركان معنوياً دون وجود ندماء في المستوى ذاته عقلاً ومعرفة وعمراً، فضلاً عن «الجرّ» الذي يقصد به التمهّل والتؤدة في الإعداد، حتى يطول الأنس والإمتاع وينقضي ما أمكن من الوقت؛ لأن المجلس ليس «للشرب» فقط؛ بقدر ماهو لحظات للدردشة والسمر وتناشد الأشعار والمفاكهة بين الأصدقاء.
يقول العلامة والشاعر الموريتاني بابا بن الشيخ سيديا مصوراً سهرة شاي، واصفاً الأجواء المحيطة بها:
يُقيم لنا مولايُ والليل مقمرُ 
              وأضواء مصباح الزجاجة تُزهِرُ
وقد نسمتْ ريح الشمال على الرُّبى 
              نسيماً بأذيال الدُّجى يتعثّرُ
كؤوساً من الشاي الشهيّ شهيّة 
             يطيب بها ليل التِّمام فيقصرُ
تُخُيّر من تجار «طنجة» شاهها 
            وخِيرَ لها من تَلْجِ «وهران» سكّرُ
وإذا كانت لإقامة الشاي شروط ينبغي التقيّد بها، فإنه يشرط أيضاً في مُعدّه (القيّام) أن يكون على دراية تامة بصناعته، وعلى معرفة بأدب المفاكهة والمنادمة، زيادة على أنه لا يحق له تناول كأسه إلا بعد ما يشرب الجميع كؤوسهم، كما أنه لا يحق للمرأة ولا الطفل تناوله ولا إعداده، وإلاَّ عُدّ ذلك خرقاً سافراً للأدبيات المتّبعة في هذا الشأن.
وتستعمل في الشاي الموريتاني أوانٍ هي الإبريق والكاسات و«الزنابِل» و«الطابلة»، ويُطلق عليها مجتمعة اسم «المَواعين»، ولا مانع من زخرفتها وتزويقها بشكل جيد كي تبدو برّاقة، ويتم تنظيفها مرتين عادة قبل بدء الشاي وبعد الانتهاء منه، وتسمى هذه العملية ب«التزياف».
وقد استقبل بعض رجال الطبقة العالمة خاصة الفقهاء هذا «الأتاي» بحنق شديد، ورأوا فيه إسرافاً وهدراً للوقت والمال؛ وقالوا بحرمته قياساً على الخمر، إلا أنهم قُوبلوا برفض قاطع من توجه آخر غلبت على معظم رجاله الميول الأدبية، وأخذ أصحابه يناكفون الفقهاء ويدحضون حُججهم، بناء على معطيات منطقية تتعلق بتركيبة الشاي الحلال (ماء، ورق، سكر)، وهذا ما أدخل الشاي فقه النوازل وتم الحديث عنه بإسهاب، ثم ما زال الأمر سجالاً بين الطرفين إلى أن رجحت كِفّة المناصرين، وأخذت أصداء الفتاوى المحرِّمة تخفت رويداً رويداً إلى أن امّحت من عقول الناس، ولم يبق لها من وجود سوى سطور خجولة على شكل فتوى متوارية في ركن قصي من قُصاصة مهملة.
فهذا الأخذ والردّ بين المناصرين والرافضين أنتج لنا أدباً غزيراً أغنى المدونة الشعرية، ومهّد لظهور لون أدبي جديد هو شعر الشاي، يمكن أن نسميه مجازاً الأدب «الخمري» الموريتاني في بعث جديد لمصطلح قديم. ف«عندما تغنى الشعراء بالمشروب الجديد، اتبعوا في ذلك نموذج الخمريات، وأسهبوا في وصف الأنيس وأواني الأتاي ولونه ومذاقه».
وقد تفنّن الشعراء في وصف الشاي ومجالسه وتغنّوا بمآثره، وأكثروا من ذكر فوائده وقيمه، جاعلين منه «خمراً» محلية، مستحضرين المعجم الخمري القديم، باعثين مصطلحاته من قبيل «الكأس» و«النديم» وغير ذلك مما يستخدم في هذا الباب.
ولئن كان «الأتاي» أثار بظهوره جدلاً بين الرافضين والمؤيدين له على حدّ سواء، فإن المنافحين عنه أيضاً انقسموا على أنفسهم شيعاً في تحديد عدد كؤوسه خلال دورات الشاي اليومية، فمنهم دعا إلى «التربيع»؛ أي تناول أربعة كؤوس في الدورة الواحدة، ومنهم من احتفظ ب«التثليث»، شريطة أن تكون الكؤوس ملأى، علماً أن الدورات اليومية في الغالب تقتصر على ثلاث؛ أي بمعدل تسعة كؤوس يومية في المتوسط.
غير أنه يجدر التنبيه إلى أن الرفض الذي قُوبل به الشاي أو «شراب الصالحين» كما يحلو لبعض متصوفة المغرب تسميته (الذين كانوا يستعملونه منبّهاً للسهر من أجل التعبّد وقيام الليل وقراءة الأوراد)، لم يكن مقتصراً على موريتانيا وحدها، بل إننا لا نكاد نجد له ظهوراً في بيئة ما، حتى ينبري له رافضون بدواعٍ مختلفة، بعضها ديني (الحرام) وبعضها صحي (المرض)، وبعضها الآخر ثقافي (مخالف للعادات)، كما تؤكد لنا ذلك بعض المصادر في هذا الصدد، مثل كتاب: «من الشاي إلى الأتاي» لعبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي.
إن الحديث عن الشاي وأدبه ومزاياه، يقودنا إلى تسجيل ملاحظات مهمة تتعلق بوظائفه المتعددة، ذلك أن له في أحد تجلياته وظيفتين أساسيتين؛ إحداهما اجتماعية والأخرى تواصلية. ونقصد ب«اجتماعية» هنا، أن الشاي انتقل فعلاً من كونها مشروباً يومياً عادياً، إلى مصافّ الموائد التي تقدم للضيوف إمعاناً في إكرامهم وتقديرهم والإعلاء من شأنهم، فمثلاً يمكن أن نقدّمه للضيف مع قليل مما تيسّر من الطعام، دون أن نُتّهم بالتقصير في حقه أو عدم إكرامه، لكن كثرة المأكل وتنوعه لا يمكن أن تقوم مقام الشاي بحال، وهذا ما قد يفسّر مركزية الشاي في ثقافة القوم.
أما الوسيلة التواصلية فنعني بها أن «الأتاي» أصبح مساهماً بشكل كبير في توطيد العلاقات داخل الأسرة الواحدة؛ بل في المجتمع كله؛ ذلك أن له مواعيد يومية محددة، أصبحت بمثابة ملتقى يجمع كل من فرّقتهم دروب الحياة في موعد لا يخلفه معظم الموريتانيين. ففي مجلسه تُحكى الأشعار العربية والشعبية، ويحلو لقاء الأصدقاء والخلاّن، وعلى أنغامه تُتعاطى السياسة، وبه أيضاً يقتل البطّالون من الشباب معظم أوقاتهم، وإليه تهفو نفوس الموريتانيين عموماً.
وهكذا نرى مدى أهمية الشاي في حياة الإنسان الموريتاني، الذي قلّ أن نجده أينما كان إلاَّ ومعه زاده من هذا «الشراب» طيّب الذكر، منذ أن تعرّف إليه واقتحم حياته دون استئذان، وتوطدت علاقته به يوماً بعد آخر، حتى استلب منه العقل وتحكّم في حشاشة قلبه، وأصبح جزءاً مهماً من ماهيته الروحية والثقافية.

الخليج الاماراتية