من وراء زجاج نظارته السميك يحدق مصطفى في القطعة التي بين يديه، يستخدم إبرته حينا، ومبرده حينا آخر، مسترسلا في حديث عن الصناعة التقليدية الموريتانية، تمتزج فيه مرارات الحاضر بذكريات ماض كان الصانع فيه مركز حياة المجتمع.
من تجاعيد وجهه البسيط وخشونة أصابع يديه، تقرأ أثر الزمن في حياته، ومن حديثه المسترسل تصلك آهات شيخ أرهقته مهنة ارتبط بها يوم كانت ذات قيمة، لكنه وجد نفسه بعد أن كبر وشاخ لا يكاد يكسب منها قوت يومه، ولا يتذكره مجتمعه إلا في حالات نادرة.
مصطفى ولد محمدن ولد اعلي سبعيني لا يعرف من المهن سوى الصناعة التقليدية.. انشغل بها منذ نعومة أظفاره فعلقت بشغاف قلبه، ونشأت بين الاثنين "علاقة وثيقة لم تستطع صعوبات الواقع التأثير فيها، لأنها عشرة عمر" كما يقول في حديث مع الجزيرة نت في ورشته بالمعرض الوطني بنواكشوط.
يحدثك الصانع مصطفى عن الصناعة التقليدية كأنما يحكي قصة حياته بالمجتمع الموريتاني، حيث "كان الصانع التقليدي محور حياة الناس، وهو الملجأ في كل ما يحتاجونه، يصنع أدوات الإنتاج، وأثاث البيت وسروج الخيل، ويصنع البنادق.. باختصار كان حاضرا في كل تفاصيل الحياة القديمة لهذا البلد".
الحرفة التي خطف بريقها الأبصار تاريخيا وشكلت منتجاتها قوام حياة الموريتانيين، يشبه واقعها اليوم في كثير من تفاصيله واقع حياة مصطفى، فقد أصابتها الشيخوخة مثله، وبات مردودها ضئيلا ككسبه منها، لا يكاد يمارسها غير شيوخ ارتبطت حياتهم بها، فلم يبق أمامهم إلا التمسك بها من أجل لقمة عيش يحصلون عليها بكثير من الجهد والعرق.
الصناعة التقليدية بموريتانيا حرفة متوارثة في فئة بعينها تسمى محليا "لمعلمين" أو "الصناع". ورغم اعتزاز أهلها بها فإن شيوخها لا يريدون اليوم توريثها لأبنائهم، الذين يحرصون "على توجيههم لمهن وحرف أخرى، شفقة عليهم من واقع مزرٍ اقتصاديا واجتماعيا تعيشه الحرفة وأهلها" وفق تعبير مصطفى.
تنظيم القطاع
ويعتبر المنشغلون بالقطاع أن هنالك جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية كانت وراء ذلك، فالبعض يرى أن "تهميش الشريحة ذاتها والنظرة النمطية لها السبب الرئيسي لما تعانيه الصناعة" وفق تعبير الناشط في حراك لمعلمين محمد يحيى ولد عبد الرحمن.
لكن آخرين يرون أسبابا أخرى، فعضو اتحادية الصناعة التقليدية والحرف ومسؤولها الجهوي بانواذيبو محمد يحيى ولد الكنتاوي يقول إن هذه الحرفة تعاني مشاكل تتعلق بالتنظيم والتسويق والتمويل "فالوزارة المكلفة بالصناعة التقليدية لا تزال عاجزة عن رسم سياسة لتنمية القطاع وتنظيمه وخلق بنى تحتية أساسية" يوجد فيها أهل المهنة "والتنظيمات المهنية ليست قادرة على رفع التحديات التي يواجهها الصانع التقليدي".
ويضيف ولد الكنتاوي في حديث للجزيرة نت أن "الصناعة التقليدية رغم جودتها العالية تعاني من عدم التسويق، فالدولة لم تتول الأمر، والمهنيون غير قادرين على تحمل أعباء التعريف بمنتوجاتهم، وعندما يحين موعد أحد المعارض التي ينتظرها الصناع بفارغ الصبر للاستفادة منها في التسويق يقوم المسؤولون في الوزارة بتقمص شخصيات الصناع التقليديين فتضيع الفرصة على هؤلاء الذين انتظروها طويلا".
دور الدولة
ومعالجة هذه الوضعية تتطلب في نظر أهل الحرفة أن تقوم الدولة بإنشاء مراكز للتكوين يقدم من خلالها شيوخ المهنة خبرتهم، كما يتطلب توفر آليات للتمويل، وضمان تسويق المنتوج وحمايته في وجه المنافسة، وهي مقترحات يرى المسؤولون في إدارة الصناعة وجاهة الكثير منها.
ويقول مدير الصناعة التقليدية إبراهيم ولد اندح إن "القطاع عمل على تنظيم المنشغلين بالحرفة وأصدر النصوص القانونية اللازمة لذلك، وبذل جهودا متواصلة لتكون هنالك تنظيمات مهنية للصناع التقليديين قادرة على طرح قضاياها والإقناع بها، تماما كالتنظيمات المهنية الأخرى الناشطة".
ويضيف ولد اندح في حديث للجزيرة نت أن "الوزارة تعمل الآن على خلق بنى تحتية حديثة للقطاع تتمثل في إنشاء مجمع حديث يضم قرية للصناعة التقليدية في نواكشوط، ومعرضا للمنتوجات، وقد وصل هذا المشروع مراحل متقدمة".
وبخصوص التكوين، يرى ولد اندح أنه "حين يتوفر الشريك المهني الفاعل سيكون بالإمكان إضافة شعب وتخصصات في مراكز التكوين المهنية القائمة تعنى بالصناعة التقليدية، وحينها ستنتقل من مهنة متوارثة إلى تخصص علمي، وبذلك تفرض نفسها وتستعيد ألقها".
المصدر : الجزيرة