الطفل يقرع الفؤاد!

10 أغسطس, 2018 - 10:23

في أوْجِ امتزاجنا وتصالحنا مع حقيقة كوننا كبارًا، ما زالت طفولتنا حاضرة فينا وبقوة، فأقل أحداثها خفوتًا هي نبع شديد الثراء نستمد منه طاقات وطاقات، أتذكر التأهيل النفسي الفطري الذي مارسه أبي تجاهي كوني أنا الابن الوحيد له؛ وذلك كي أتجهز لدور الكبير القادم، تمهيد نفسي تمثل في طلب رأيي أنا الطفل الصغير مثلًا حول محاور رئيسة في اتجاهات أسرتنا المعيشية، ما رأيك في تعديل ما اقترحه إخوتك الكبار حول تقسيم بيتنا وإعادة تشكيله، أيناسبك أن نفصل بين غرفتينا الكبيرتين بصالة ما كمتنفس رحب يجمعنا، أم تؤيد إقرار الوضع على ما هو عليه؟! لا أدري يا أبي لكنني حقًا أثق في رأي أختي الكبيرة التي تعلم كل شيء.

أنا لا أقدس الأماكن" هكذا قالها لي ومضى بعد أن سألته عما يمثله له بيته، وكونهِ شخصًا يُستمدُ منه الصواب وتؤخذ من بين مواقفه ولسانياته النصائح؛ جعلني أتزحزح قليلًا عن حجم الحب الرابض في نفسي لبيتي الذي ولدت فيه ونشأت وصرت كبيرًا، فجّر في نفسي كثيرا من الأسئلة والتفكر عن ماهية الحب الذي أحمله لمكان ما، هل هو ارتباط نفسي بحجارته وأركانه أم ارتباط نفسي بشخوصه وعلاقاته، تذكرت وقوف الشعراء قديمًا على الأطلال والدروس وبكاءهم على خوائها من ساكنيها وهياج مشاعرهم حيال تحولها من جنان وارفة بوجود محبيهم، إلى أثر بالٍ لا يبعث إلا على الموات، وأيقنت فعلًا أن قيمة المكان من قيمة شخوصه وساكنيه فمتى هم تركوه أو زهدوا فيه فلا قيمة له.

كانت هذه إحدى مشكلاتي الكبرى في عالم الطفولة، لم يفهم هؤلاء المربون الأفاضل أن لكل طفل حيزه من المقدرة، استواء التعامل بين الجميع هو شيء يدعو لإبراز أحدهم وطمس الآخر، بل بشكل جازم تعقيده ونزع فتيل النجاح من نبتته الطازجة، لكنني وبمساعدة عفوية من أبي وأمي البسطاء تمكنت من تحرير طاقتي وجاهدت جهادًا عظيمًا لأنال من فؤادي الصغير حفظًا ما يليق بالمتفوقين، حقيقة لم يدفعني العقاب إلى هذا الاجتهاد بل ربما نكسّني وأقعدني متواريًا عن الجهد، ولكن تلك الثقة والافتراض التلقائي من أسرتي أني متفوق وأستطيع هو ما عالج الآمر برمته، ومنحني القدرة على كبح جماح محدوديتي والسير قُدما نحو الحفظ. كان ذلك بمثابة نجاحي الأول في معترك الحياة، نجاحًا جاء كنتيجة منحي الثقة ووضعي على مبتدأ افتراض يقول إني متفوق وأستطيع، ملامح الكبار في نفسي تتشكل قبل الآوان بآوان، لكن أكان هذا ليفي أن أكون مستقبلًا كبيرًا مثاليا يواجه الحياة بكل شجاعة واقتدار؟! أعتقد لا؛ فعالم الكبار يتخطى كل ما يمكننا أن نتجهز له به من تمهيدات.

أبغض القيود التي تحتم علي أمرًا لا أستسيغه، المدرسة في اعتقادي أنا الطفل الصغير كانت قيدًا سمجًا يحتم عليك أن تتكيف مع أمور ربما لا تناسب فرديتك، لم أكن ذلك التلميذ المشاغب الذي يمكنه أن يقفز الأسوار، لكنني لم أكن لأنسى تلك المرة الفريدة التي حظيت فيها بإحساس لا يوصف، تداخلت فيه الصعداء مع توتر ما، وبرزت فيه حريتي لأول مرة شعورًا وتذوقًا، كانت تلك المرة قبل وصولي لمرحلة المدرسة، كُتّاب ما في قريتي يعج بالتلاميذ، العقاب ها هنا رهين أنت له، إذا لم يكن بضرب ما مبرح، فهو بذلك الوقت الطويل الذي تقضيه محبوسًا هنا، كانت البولبة دائما مغلقة موصدة، لم أكن لأفكر في الأمر أبدًا لولا أن البوابة على غير العادة على مصراعيها، نظرة ما لرفيق دربي ودون أي مقدمات تلاقت أيدينا تشد أزر بعضها وانطلقنا ركضا هاربين، يبدو أننا نبحث عن الحرية والتعبير عن ذواتنا أطفالًا كنا أم كبارًا

أحمد جمال الهادي

كاتب ومدون

.