نواكشوط عاصمة فتية تجمع بين عالمين، عالم الحضارة الحديثة بشوارعه الراقية ومبانيه الشاهقة، وعالم آخر هو عالم البادية بمسلكياته وأنماط حياته التي اصطحبها السكان القادمون من قرى الريف إلى العاصمة.
هذا التزاوج بين الحداثة والبداوة في أذهان الريفيين القادمين للمراكز الحضرية، يتجلى في مظاهر عديدة بينها الخيم التي تضرب أطنابها على سقف الفيللات الراقية وبينها النوق المعقولة عند بوابات المنازل في أرقى أحياء العاصمة.
السيارات والحمير
لكن المظهر الذي يستغربه كل قادم إلى نواكشوط هو ازدحام شوارع العاصمة بآخر ما أنتجته التقنية اليابانية من موديلات السيارات إلى جانب حضور كبير للعربات التي تجرها الحمير والمعروفة محليا بمسمى «شاريتات».
والعلاقة بين بداوة الصحراء والحمير علاقة قديمة وطيدة، فعلى ظهر الحمار الصبور الذي يعلف نفسه ذاتيا بما تلتهمه سفافات فمه من قمامة، بنى الموريتانيون الكثير وحملوا الخيم في البوادي ونظموا التمون بالماء من أبعد الآبار وأكثرها غورا، وعلى ظهور الحمير نقلت قوافل الحبوب من أقصى المزارع.
هذه العربات تتولى نقل البضائع وتتولى أيضا توزيع مياه في براميل كبيرة يتجول بها الباعة من منزل إلى منزل ومن حي إلى حي لملء الجركانات.
وفي المدن تستخدم الحمير في مواقع ضيقة لا يمكن للسيارة دخولها سواء في الظروف العادية أو بسبب الظروف المناخية الصعبة.
وسيلة النقل المفضلة
يفضل الكثيرون وبخاصة أصحاب الدخل المتواضع استخدام «الشاريت» لأنها توفر الخدمة بسعر رخيص، وإن كانت بطيئة ولا تفيد ذوي المهام العاجلة.
ويفضل الأطفال عربات الحمير داخل المدن لكونها وسيلة بسيطة خصوصا في أيام الأعياد، كما يفضلها الكبار لقدرتها على اجتياز الكثير من الحواجز ولكلفتها البسيطة. وتتصدر عربات الحمير «الشارتات» وسائط النقل في العاصمة الموريتانية نواكشوط وبخاصة في أحياء الصفيح المحيطة بالعاصمة من الجنوب والشمال ومن الشرق.
فسكان هذه الأحياء يقومون بتنقلاتهم اليومية باستخدام هذه العربات التي يقودها في الغالب منحدرون من مجموعة «الحراطين» (الأرقاء السابقون).
ويشير تولي أفراد هذه المجموعة لقيادة عربات الحمير المضنية ما تعيشه هذه المجموعة من فقر وبؤس، حسبما يتراءى للزائر عند أول جولة داخل العاصمة.
دخل يومي زهيد
لا توفر عربات الحمير رغم استخدامها الواسع دخلا مقبولا نظرا لمنافسة سيارات النقل لها ولقلة ما يدفع لأصحابها من أجور إذ لا يتجاوز المقابل المحصل من مشوار واحد 50 أوقية موريتانية (0.16 دولارا).
يقول الصبار ولد الأزغم وهو صاحب عربة «أستيقظ كل يوم بعد صلاة الفجر فأضع البردعة على حماري وأربط أعمدة العربة على ظهره وأمتشق عصاي الغليظة وأبدأ رحلة كسب طويلة أجول خلالها في أماكن عديدة وأقطع مسافات شاسعة».
وعن الدخل يقول « كل يوم أحصل ما بين الساسة صباحا والسابعة عشية، ما يتراوح بين ألفين (6 دولارات) إلى ثلاثة آلاف (10 دولارات) أوقية وهذا دخل رقم قلته يساعدني في إعاشة أسرتي المكونة من ثمانية أفراد».
عربات الحمير ضرورة
وتستلذ امباركه بنت لرباس بائعة خضروات في سوق المغرب ركوب «الشاريت»، وتعتقد أنها وسيلة النقل الآمنة والرخيصة».
أما محمد همر ولد اصنيبه فيرى «أن عربات الحمير ضرورة لعدم توفر التاكسيات في مناطق العاصمة كلها؛ «فأنا وأمثالي، يضيف ولد اصنيبه، نركب العربات لعدم وجود غيرها».
ويشكو محمد فال ولد سيدي سائق تاكسي من عربات الحمير، ويؤكد «أنها تشكل فضيحة كبرى وأن ضرها يغلب على نفعها».
العربات والأمن
يصاب قطاع شرطة المرور داخل العاصمة بحيرة كبيرة فالحكومة لم تتخذ بعد قرارا ملزما بإيقاف حركة «الشارتات» داخل العاصمة وهو ما يمنع أفراد المرور من اعتراض العربات ومعاقبة مستخدميها بل واحتجازها.
«ومن ناحية أخرى، كما يؤكد الوكيل سالم ولد مصطف، فالعربات تشكل ورطة حقيقية وسببا كبيرا في الزحمة التي تشل الحركة داخل العاصمة».
المعاملة بدون رفق
ورغم أهمية الحمير في الحياة اليومية لسكان موريتانيا، فإن هذه الدواب الصبورة تناط بها الأعمال الشاقة كحمل الأثقال من البشر لبراميل المياه للسلع المختلفة حتى للقمامة.
وتتعرض هذه الدواب لسوء المعاملة كالضرب الشديد وتحميلها ما فوق الطاقة وعدم تعليفها كما يجب، وإهمال معالجة جروحها.
ويؤكد محمود ولد الشيقر «أنه لا يمكن أن يمسك نفسه عن ضرب حماره بسبب وبلا سبب»، ويضيف «قد يكون الجن هم من يدعونني لذلك».
منظمة نمساوية تعالج
وتؤكد منظمة «ريسبكتوري» النمساوية المهتمة بالرفق الحيوان «أنها تواصل منذ سنوات معالجة الحمير السائبة في المدن الموريتانية والتي تعرضت لحوادث سير أو لأمراض مزمنة».
ويقول أحد الأطباء الذين يعملون في برنامج المنظمة النمساوية أنه يخاطب أصحاب الحمير الذين يترددون عليه لعلاج دوابهم قائلا «أتوسل لكم ألا تضربوا هذه الحمر بعد ذلك. سنساعدكم حتى لا تسوء حالته لا نطلب منكم مالا. لا نطلب أي مال..نرجوكم فقط ألا تضربوه بعد ذلك.»
للحمير مواسم سباق
مع كل هذا فللحمير مواسم سباقاتها في الداخل الموريتاني حيث يهتم المتسابقون بتعليف حميرهم المعدة للسباق.
ويتجمع المئات من المشاهدين لمتابعة سباق الحمير الذي لا يخلو من طرافة.
يقول سيدي ولد اسويلم وهو منظم لسباقات الحمير في كيفة وسط موريتانيا « الحمار لا يقل أهمية عن الخيل فله جمال منظره وله قدرته الفائقة على الجري والقفز».
ويضيف « لو انتبه الموريتانيون لأهمية سباقات الحمير لأصبحت هذه الدواب مضاهية للثيران في إسبانيا وللخي المطهمة في الخليج».
الحمير وحوادث السير
تتسبب عربات الحمير في ازدحام الطرقات وخدش السيارات المتوقفة في جنــبات الـطـرق، كما تتسبب في الحوادث.
يقول محمد ولد السالم مدير وكالة لتعليم السياقة في نواكشوط مفسرا هذه الظاهرة «هذا التزاوج بين نمطي الحياة يعكس انتقالنا، نحن الموريتانيين، المفاجئ من أقصى الحياة البدوية إلى الحياة المعاصرة دون مقدمات ولا مراحل».
ويضيف في توضيحات للقدس العربي «معظم حوادث السير المسجلة سببتها العربات المجرورة على أكتاف الحمير، والتي لا تمنعها البلدية من ولوج الأحياء الراقية لأن أصحابها يدفعون الضرائب، المهم عند البلدية هو دفع الضرائب قبل الاهتمام بمظهر المدينة».
استبدال العربات بدراجات
يبدو أن مجموعة نواكشوط الحضرية قد وعت خطورة وجود عربات الحمير داخل أحياء العاصمة وفي أسواقها فقررت شن حملة كبرى لتنظيف العاصمة من هياكل السيارات المهترئة ومن الأوساخ مع السعي لاستبدال عربات الحمير بسيارات صغيرة ثلاثية العجلات وذات محركات ترشيدية تقوم بنفس الخدمات التي كانت تؤديها عربات الحمير وتعطي للعاصمة نواكشوط مظهرا أكثر قبولا.
تدريب على سياقة الدراجات
في هذا النطاق تتواصل حاليا دورات تدريب تشرف عليها إدارة النقل البري بوزارة النقل الموريتانية لفائدة مجموعة كبيرة من السائقين وهم في الغالب من فئة الحراطين (الأرقاء السابقون)، على قيادة سيارات النقل الجديدة الشبيهة في شكلها وخدماتها بسيارات «أمجاد» وعربات «النكشة» في العاصمة السودانية الخرطوم.
هذه الدورات جعلت الكهول يجلسون للتعلم وهم يرتدون قبعات وقمصان هذه الدورات التأهيلية وذلك في ورشات خاصة افتتحتها وزارة النقل على شارع المقاومة شمال شرق العاصمة نواكشوط.
دمج الأرقاء السابقين
هذا المشروع الذي تساهم فيه جهات عدة تتقدمها وكالة التضامن الحكومية العاملة في محاربة آثار الرق، يهدف حسب القائمين عليه، إلى تحقيق أمرين أولهما الحفاظ على مظهر مقبول للعاصمة أما الثاني فهو تحسين ظروف حياة ومعاش الأرقاء السابقين الذين هم مستخدمو عربات الحمير ضمن السعي لمحو آثار العبودية.
وفي هذا السياق أعلنت وكالة التضامن لمكافحة مخلفات الاسترقاق وللدمج ومكافحة الفقر عن استلامها 2550 عربة ثلاثية العجلات من طرف السفارة الصينية بنواكشوط.
دراجات صينية بدل الحمير
وأكدت الوكالة وهي وكالة حكومية «أن هذه العربات البالغ عددها 2550 عربة ستوزع إلى ثلاثة أقسام الأول مخصص لنقل الخضروات والأسماك والثاني لنقل البضائع والثالث لنقل الأشخاص.
وأوضحت «أن هذه العربات مساعدة من الصين استجابة لطلب من الحكومة الموريتانية بهدف دعم جهودها الرامية إلى تحديث نظم النقل الحضري في كبريات المدن وبخاصة في العاصمة نواكشوط ونواذيبو وروصو وكيفه كما توفر العديد من فرص العمل إضافة إلى مساهمتها في نظافة المدن».
تدريب ورخص قيادة
يؤكد محمد ولد محفوظ مدير الوقاية والسلامة الطرقية في تصريحات أخيرة لوكالة «الصحراء/ميديا» حول مشروع السيارات الثلاثية «..هذه العملية تتضمن التدريب على قيادة مثل هذه العربات واستصدار رخص لأصحابها».
وأضاف «تتولى وكالة التضامن شراء السيارات الثلاثية بناء على جرد قامت لمستخدمي العربات التي تجرها الحمير في مقاطعات نواكشوط التسع، وهي العملية التي خرجت بعدها قوائم طويلة تعكسها الطوابير الممتدة في ساحة التدريب اليوم».
شكوك في البديل
يقول سنده ولد ميصاره أحد المشاركين في الدورة التدريبية «ساترك عربتي وحماري وهذا يحز في نفسي لأدخل عالما جديدا علي».
«إنني، يضيف، أحن إلى حماري لكنني مضطر للتخلي عنه لتجربة هذه الدراجات الجديدة».
ويتخوف سعدنا ولد الدويك من مستقبل مشروع السيارات الثلاثية ويقول «..أخشى ألا تتوفر قطع الغيار لهذه الدراجات فتتوقف ونكون قد نسينا حميرنا وعرباتنا».
ويؤكد المشرفون على العملية «أن أكثر من 2550 مالك عربة حمير قد سجلوا أسماءهم للاستفادة من مشروع استبدال العربات بالسيارات الصغيرة».
مشروع طموح
ويقول المشرفون «هدف المشروع هو الحد من زحمة المرور، وضمان مظهر مدني لائق بالعاصمة نواكشوط التي تشهد منذ أكثر من شهر حملة واسعة للنظافة.»
ويؤكد المستفيدون المحتملون من هذه التجربة أنهم «مقبلون بحماس على ساحات التدريب على القيادة للحصول على رخص والأمل يحدوهم في خوض تجربة ناجحة قد تعــوض لهم ما قد يخسرونه من مداخيل بعد استبعاد الحمير من العمل في العاصمة».
ويبدي بعض هؤلاء الخشية من تجربة السيارات الجديدة التي يخافون من أن تكون ضعيفة البنية وغير قادرة على الاستمرار فترة أطول في الخدمة.
يقول أحد المترشحين للاستفادة «نحن فرحون بهذا المشروع ، لكننا قلقون من المستقبل». ويضيف آخر «الفكرة ربما تكون مغرية لكن المشكلة تكمن في مدى قدرة هذه المركبات على البقاء مدة أطول».
مقارنة سعر
الوقود بسعر العلف
وينشغل المقبلون على خوض تجربة السيارات الصغيرة بتقدير مستوى استهلاك السيارات للوقود مقارنين في قلقل كبير بين سعر أعلاف الحمير وأسعار البنزين.
وتنتظر مجموعة نواكشوط الحضرية التي انتخب مجلسها قبل سنة من الآن، بعد اكتمال مكونات المشروع الجديد، أن يتحقق للعاصمة الموريتانية حلم قديم هو اختفاء الحمير من شوارعها وسوحها العامة وأسواقها.
غير أن الكثيرين يخشون من عدم استمرارية المشروع لأسباب منها مدى قوة هذه السيارات ذات العمر الإندثاري القصير، ومنها مدى قدرتها على تأدية كامل الخدمات التي كانت تؤديها العربات المجرورة على الحمير.
ويظل الخروج من عهد عربات الحمير لعهد السيارات مهمة بالغة الصعوبة لكونها لا تتعلق فقط بتغيير المسلكيات بل لارتباطها الوثيق صعودا ونزولا، بالحالة الاقتصادية والاجتماعية للمواطن.
نقلا عن القدس العربي " بتصرف"