سوق "شارع الرزق" سلة غذاء موريتانيا

8 ديسمبر, 2017 - 00:21

عرف شارع الرزق طريقه بقوة إلى الأدب الموريتاني الحديث، منذ العقدين الماضيين كرمز متعدد الدلالات بقدر تعدد مواد هذا السوق الذي أصبح سلة غذاء موريتانيا بلا منازع منذ ثلاثة عقود، عندما نشأ على ضفتي شارع العيادة المجمعة قبل أن يمتد باتجاه الشمال نحو شارع جمال عبد الناصر، ثم الجنوب نحو سوق العراق وسوق الحموم .

سمي هذا السوق بشارع الرزق من قبل الجمهور لكون محلات السوق تقع على ضفتي الشارع شرقاً وغرباً، وهكذا لا ترى في الشارع من يتحرك وحيداً، بل لا بد أن تكون بجانبه بضاعة أو عربة يدوية أو آلية تحمل بضائع . ذلك أن البضائع تتحرك في هذا السوق بحركة المارة وأكثر أحياناً .

سوق يعج بالشاحنات الضخمة والمتوسطة والصغيرة والعربات التي تجرها الحمير والعربات اليدوية والمخازن الضخمة والصغيرة .

محالّ تجارية لا تنبئ واجهاتها بحقيقتها، فخلف كل محل صغير توجد مجموعة كبيرة من المخازن التابعة له، حيث تخزن أغلب البضائع في انتظار أن تشحن إلى زبون جديد .

يبيع هذا السوق جميع المواد الغذائية من أرز وسكر وألبان وعصائر وزيوت وشاي وقهوة وسجائر، وكل ما يمكن أن يعرف طريقه إلى البلعوم البشري . وهذا سر تسميته بشارع الرزق، تلك التسمية الشعبية التي أصبحت رسمية . وقد نما سوق شارع الرزق بسرعة قياسية مع نهاية الثمانينات من القرن الماضي مع إنشاء ميناء نواكشوط الدولي وبعد عودة التجار الموريتانيين المسفرين من السنغال الذين بدؤوا في البحث عن مكان استراتيجي وسط العاصمة نواكشوط لتجارة المواد الغذائية .

وبخبرتهم الفطرية والمكتسبة بدؤوا بفتح محال تجارية في هذا الشارع مستفيدين من موقعه الاستراتيجي كونه يقع قرب طريق الأمل الذي يشق العاصمة نواكشوط قاطعاً 1200 كيلومتر داخل الأراضي الموريتانية، حيث يمر بأغلب مدن وقرى البلاد . فكان شارع الرزق أول ما يتلقف التجار القادمين من الداخل الذين يشترون المواد الغذائية بكميات كبيرة لشحنها إلى المدن الداخلية والدول المجاورة .

ثم بدأ السوق بسرقة زبائن الأسواق الأخرى في العاصمة نواكشوط تدريجياً، مستفيداً من سرعة المضاربة على البضائع والخيارات المتعددة أمام الزبون ومن بينها البيع بالتقسيط إلى البيع بآلاف الأطنان . حسب رغبة وقدرة الزبون .

وهكذا وجد التجار الذين بدؤوا في هذا السوق أنفسهم أمام طفرة تجارية غير متوقعة، فانتقل رأسمال منهم من مجرد مئات الآلاف من الأوقية كديون، إلى مليارات أصبحت زكاتها تفوق بكثير رأس المال الذي بدأ به أصحابها .

وخلال السنوات القليلة الماضية شكل سوق شارع الرزق وجهة يومية لآلاف الموريتانيين من تجار وزبائن وعمال يدويين وتجار متنقلين ومضاربين على البضائع وحتى محللين تجاريين تقليديين يستعين بهم رجال الأعمال والتجار في استقراء طقس السوق وتوجهات الزبائن .

وهكذا تحول السوق إلى سوق استراتيجي يحظى بعناية فائقة من طرف السلطات التي تحرص على أمن هذا السوق أكثر من أي سوق آخر، لكونه محطة مهمة في الأمن الغذائي لسكان البلاد، حيث تشحن منه البضائع إلى آلاف المحال التجارية في مختلف أنحاء البلاد، كما يشكل رأسمالاً اقتصادياً وتجارياً ضخماً من جهة، يضاف إلى ذلك كونه مجالاً لمحاربة البطالة وتوفير آلاف فرص العمل اليومية لآلاف العمال الفقراء .

يعج سوق شارع الرزق بالرجال والنساء وحتى الأطفال منذ الصباح إلى المساء، وتعلو جلبته على كل جلبة، فهو طريق الأطنان والمليارات يومياً، وفيه لا يتوقف هدير الشاحنات، على وقع عد النقود، إلى أصوات الباعة مساومة وشراء، إلى أكياس النقود المحمولة بخفية . . إلى الغبار المتطاير، كما أنه في أحيان كثيرة طريق إلى الثراء السريع، ومن خلاله توافر للعشرات التمتع بدخول نادي الأغنياء بل والأثرياء الكبار .

تأثير سياسي

مع توسع السوق وازدياد هيمنته على التجارة الموريتانية، حيث يشكل اليوم أكبر مقياس للسيولة ولحركة الأسعار، لم يعد سوق شارع الرزق حكراً على أصحاب المؤسسات التجارية، بل تحول إلى مجال شرس للتنافس بين البنوك الخصوصية الموريتانية التي تقدم لتجار السوق الغالي من الخدمات ليصبحوا من زبائنها ومودعيها . كما شكل السوق مجالاً لودائع المال الحرام، حيث يقوم المسؤولون الفاسدون بإيداع سرقاتهم من أموال الدولة لدى معارفهم من تجار هذا السوق قبل أن تعرف وجهتها النهائية إلى الاستثمار أو السياحة .

ولم تكن عين الرئاسة الموريتانية غائبة بطبيعة الحال عن هذا السوق، فدعم هذا الكم الكبير من رجال الأعمال والتجار المتعاملين في السوق أمر ضروري بل وحاسم أحياناً في تأمين الفوز في الانتخابات الرئاسية والنيابية، وتأمين الدعم الشعبي للحزب الحاكم، فكل تاجر يؤثر في عماله وفي مجموعته القبلية والجهوية، وصوته المعنوي لا يقل أهمية عن صوته التجاري في حركة اطراد واضحة بين المادي والمعنوي للذين يعرفون مداخيل هذا السوق .

وغير بعيد من ذلك، تولي الحكومة الموريتانية أهمية كبيرة للحراك التجاري في السوق لارتباطه الوثيق بحياة المواطنين وبالأخص موضوع غلاء الأسعار الذي شكل في العشرين سنة الماضية واحداً من أهم مجالات الشد والجذب بين النظام والمعارضة .

ويشهد سوق شارع الرزق إقبالاً منقطع النظير مع حلول شهر رمضان المبارك، حيث يقتني الصائمون مواد السكر والألبان والزيوت والشاي والأرز بكميات كافية للاستهلاك طوال الشهر الكريم .

لكنّ لسوق شارع الرزق جانباً أهم في رمضان خلال السنوات الأخيرة، إذ أصبحت الحكومة تلجأ إلى تجار السوق في صفقة كبيرة تقضي ببيع المواد الغذائية بأسعار مخفضة للمواطنين مقابل دفع الحكومة فارق السعر لمصلحة التجار . ويسري هذا الاتفاق في مواد الأرز والسكر والألبان والزيوت والشاي، حيث تباع بسعر أقل بنسبة 40% أحياناً، ما يشكل فرصة ثمينة للأسر الموريتانية محدودة الدخل .

كما أن أغلب رجال الأعمال والتجار بهذا السوق يقومون بإخراج زكاتهم في شهر رمضان المبارك وهو ما ينعكس بشكل إيجابي على حياة آلاف الفقراء والمحتاجين .

من الفاقة إلى الرفاهية

ارتبط سوق شارع الرزق في أذهان كثير من المواطنين بأنه سوق الأحلام والثروة، فمن خلال هذا السوق تمكن رجال بؤساء وفقراء وحتى جهلة من الانتقال من حياة الفاقة إلى حياة الرفاهية المالية بين ليلة وضحاها من خلال عمليات تجارية تشبه ضربات الحظ اللذيذة . وقد انعكس ذلك على الجانب الاجتماعي لعشرات الرجال الذين تكيفوا بسرعة مع حياتهم الجديدة مع فارق أحداث عجيبة . فأحد تجار السوق المعروفين كان قبل ثلاثين سنة فقيراً يعيش في الريف، وكان لا يعلم من الحياة إلا رعي غنيمات وسقيها من البئر ليعود إلى حيه على ظهر حمار .

ومع موجة جفاف الثمانينيات توجه إلى نواكشوط بحثاً عن عمل، فلم يجد غير وظيفة وكاف (بائع) مساعد في أحد الحوانيت، وبعد ثلاث سنوات قرر فتح محل تجاري خاص به ووجد يد العون من تجار البضائع الذين ينافسون من كان يعمل لمصلحتهم، ليتحول إلى مليونير ثم ملياردير في فترة وجيزة، ليجد نفسه يستورد من مصانع في أوروبا وآسيا ما تطلب منه تعلم الإنجليزية حتى يبقي على أسراره .

ولم يكن وحده، فأغلب كبار السوق، كما يسمون، كانوا من الفقراء الذين ليس لديهم أية رؤوس أموال ولا حتى الحظ القليل من التعلم . لكنهم تكيفوا بسرعة قياسية مع واقعهم الجديد بعد أن أصبحوا نخبة المجتمع ومثالاً يحتذى .

المصدر : الخليج الاماراتية