بشكل دراماتيكي، ومع فرحة الموريتانيين باستقلال البلاد مطلع الستينات من القرن الماضي، مسح الجفاف أغلبية الثروة الحيوانية، التي كانت تمثل 98% من مصدر دخل الموريتانيين.
أحدث ذلك هزة اجتماعية غير مسبوقة، فالمجتمع البدوي تحول بين ليلة وضحاها من الغنى إلى الفقر المدقع، والدولة الناشئة من دون أبسط شروط البنية التحتية، ما تزال تزيد عدد الأوتاد في الخيمة التي وقعت تحت وثيقة الاستقلال على تل رملي قرب بئر نواكشوط.
وفضلاً عن الآثار الاجتماعية للجفاف، والتي ما تزال شاخصة في المسلكيات، وحتى في جذور الثقافة الموريتانية الحديثة من أدب وفن، وتجليات التحول الاجتماعي بسبب الهجرة من الريف إلى المدينة، وهجرة الرجال إلى الخارج بحثاً عن العمل، وبروز «ظاهرة النساء معيلات الأسر»، لأول مرة في تاريخ المجتمع الشنقيطي، فإن الحكومات الموريتانية المتعاقبة حاولت التعامل مع الكم الأكبر من نوعه من طالبي العمل، حيث ظلت نسبة البطالة في موريتانيا تتراوح بين 60 و80%، وتذهب تقارير المعارضة إلى أن البطالة بنوعيها «المقنع» و «السافر» تصل إلى نسبة 90% بين أوساط الموريتانيين.
أما الحكومة الحالية، فتقول إنها نجحت في تقليص نسبة البطالة إلى 10% فقط، وفق آخر تصريحات الإدارة، وهذا ما ترد عليه المعارضة، بأنه «مجرد دعاية سياسية لا صحة لها»، وتستعرض عشرات الدلائل على أن البطالة ما تزال فوق 70%، فيما تجزم أن نسبة الأغنياء في البلاد لا تزيد على 5%.
وتفيد تقارير علمية أن نسبة البطالة بين حملة الشهادات في موريتانيا تصل إلى 35%، وهو رقم قياسي.
ولكن، وبعيدا عن التجاذبات السياسية حول ملف «البطالة» في البلاد، فإن الأنظمة الموريتانية المتعاقبة ابتكرت حلولاً طريفة لمساعدة العاطلين عن العمل، والتخفيف من بؤس حياة الفقر الذي يعانونه.
وبدأ «برنامج الغذاء مقابل العمل» مطلع الثمانينات مع نظام الرئيس الأسبق محمد خونه ولد هيداله (1981-1984)، وقامت الفكرة على توزيع المواد الغذائية على مجموعات من المواطنين مقابل عملها في تنظيف المدن، وغرس الأشجار، ومكافحة الرمال.
كان أهم مساهمة لهذا البرنامج هو غرس الأشجار في المدن وضواحيها من أجل تثبيت الرمال وحماية المدن من زحف الرمال، وتحول إلى ملهم لمشاريع مكافحة التصحر في بعض الدول الإفريقية والآسيوية.
غير أن الكثيرين يشككون في جدوى «برنامج الغذاء مقابل العمل»، رغم أنه تحول إلى وزارة في الحكومة تحمل اسم «مفوض الأمن الغذائي»،
وأخيراً، دخل ملف حقوق الإنسان إلى هذا البرنامج، بعد اكتشاف أن أكثر العاملين فيه هم من شريحة العبيد السابقين، فأعلنت منظمة «هيومن رايتس وتش» الأمريكية، أن «برنامج الغذاء مقابل العمل، إهانة لكرامة العبيد في موريتانيا».
واختفى هذا البرنامج بصيغته الأولى، ليتحول إلى موزع مجانا للغذاء في الأوساط الهشة، في أحزمة الفقر حول المدن، وفي قرى الأرياف.
وفي نهاية التسعينات، ومع بلوغ البطالة أوجها، بوجود أكثر من 40 ألفاً من حملة الشهادات بدون عمل، ابتكر الرئيس الموريتاني وقتها معاوية ولد سيد أحمد الطايع (1984-2005) «حلا آخر» للتخفيف من البطالة، وذلك عبر منح «حملة الشهادات» حنفيات عمومية لبيع المياه، ومعروف أن سكان أغلب المدن الموريتانية كانوا وقتها يعتمدون في مياه الشرب على براميل المياه المحمولة على عربات تجرها الحمير، ويتراوح سعر برميل الماء حسب توفر المياه من 200 أوقية إلى 1000 أوقية (3 دولارات).
خلق هذا «الابتكار» مجالاً واسعاً للفضول والتنكيت، وإحراجاً شديداً لحملة الشهادات الذين أصبح دورهم فتح وإغلاق حنفية مياه، بدلاً من مخططات الهندسة أو غرف الطب أو مشاريع الاقتصاد المختلفة التي تخرجوا فيها.
ومع انتشار شبكات المياه الحديثة في المدن، طوي ملف «حملة الشهادات العاملين في الحنفيات العمومية»، ولم يبق منه سوى ذكريات.
وبعد وصول الرئيس الحالي إلى الحكم، في 6 أغسطس/آب 2008، كان على رأس برنامجه مواجهة ملف البطالة.
وهكذا كان الحل الأول الذي ابتكره الرئيس، هو منح مجموعات شبابية من حملة الشهادات أراضي زراعية مستصلحة مع قروض ميسرة. كان البرنامج رائدا، لكن محدودية الأراضي المستصلحة، والقروض، وعدم الاختصاص، دفع هذا المشروع إلى الفشل عملياً، وإن كان عدد الذين استغنوا من هذا البرنامج، لا يتجاوز بضعة أفراد.
توك توك
في العام الماضي «2015»، ابتكرت الحكومة الموريتانية «حلاً سحرياً آخر» للبطالة، وتمثل في استفادة الآلاف من حملة الشهادات العليا، ومن العاطلين عن العمل، من توزيع سيارات صينية ثلاثية العجلات «توك توك»، ويحصل عليها هؤلاء بثمن بخس وبالتقسيط، بالنسبة للبعض، ومجاناً بالنسبة للبعض الآخر.
وهكذا، في 12 أغسطس/آب 2015 أطلقت وكالة تشغيل الشباب بنواكشوط أول عملية توزيع للمركبات ثلاثية العجلات على 3 آلاف شاب من حملة الشهادات العاطلين عن العمل، وتستخدم هذه المركبات في مجالات نقل البضائع وشحنها وتفريغها والحفظ والتبريد والتجارة المتنقلة.
وبما أن هذا المشروع ما يزال في أوجه الآن، ويستهدف تشغيل العاطلين عن العمل، وتحسين مظهر المدن عبر القضاء على ظاهرة عربات الشحن التقليدية، التي تجرها الحمير، فإنه أصبح مجالاً واسعاً للجدل، ليس من حيث نوعية هذه العربات الثلاثية العجلات، التي لم يتعودها الموريتانيون، ويشاع أنها من صناعة رديئة فحسب، وإنما من حيث مردودية المشروع ذاته، خاصة بعد الضجة التي أثارها قرار السلطات فرض إتاوات سنوية على هذه العربات بمبلغ 60 ألف أوقية، وهو ما رفضه أصحاب العربات.
لا يتوقع أحمد ولد إبراهيم، الميكانيكي، العامل في إصلاح هذه العربات، نجاح هذا المشروع؛ بسبب رداءة صناعة محركات العربات ذات العجلات الثلاث.
الخليج الاماراتية