طيف العبودية يتمدّد

24 نوفمبر, 2017 - 11:56

 

العلامة الفارقة في عصرنا الراهن، عصر المعلوماتية والميديا والإنترنت، أن شيئاً لم يعد ممكناً أن يبقى خافياً، حتى لو تأجل ظهوره لأسباب عديدة، مثلما هو عصر التضليل في الوقت نفسه، وصناعة الرأي العام وترويج أي فكرة، وحشد مؤيدين لها. فهل كان العالم غافلاً عن "عودة العبودية" التي لم تمت بالمطلق، بل تحولت إلى أشكال أخرى، إلى أن ظهر مقطع الفيديو على قناة "سي إن إن" الأميركية يعرض صور شبّان أفارقة يباعون بالمزاد العلني في ليبيا لاستخدامهم عمال مزارع؟
وفي هذا الشأن، ليس مقطع الفيديو هذا الدليل الوحيد، فهناك تقارير كثيرة لمنظمات دولية وإنسانية، أشهرها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، تهتم بالقضية، وتتابع بدراسات ميدانية وموثقة وتعد التقارير، ومنها ما يُرفع إلى مجلس الأمن الذي صار، بقراراته المرتهنة سياسياً، مجلسَ لا أمنٍ. تقارير تدق نواقيس الخطر من مستقبل مظلم للبشرية التي فاق تغوّلها وتوحشها في القرن الواحد والعشرين كل تصور، وبزّ ما سبقه على مرّ التاريخ من ممارساتٍ شائنة بحق الإنسانية، وإجرامٍ لم يشهد التاريخ بمستواه.
يقول التقرير إن ليبيا فتحت تحقيقاً بشأن هذه الممارسات، فعن أي ليبيا يتكلم التقرير؟ وعن أي سلطةٍ يمكن اعتماد تحقيقاتها، وليبيا هي البلد الذي يعاني إلى اليوم من تشظي المجتمع والدولة، ويرزح تحت وطأة الحروب البينية والنزاعات وانعدام الأمن والاستقرار والدمار والحرب والتدخلات الخارجية، وكل ما يسهّل الجريمة المنظمة؟ صارت ليبيا اليوم بوابة العبور للمضطهدين والمعذبين في الأرض الذين ينحدر القسم الأعظم منهم من أفريقيا، القارة المغتصبة المستلبة الرازحة تحت رحمة عبودية ماكرة متنكرة جمعية، بوابة عبورهم إلى جنة النعيم "أوروبا"، في دروب آلام ومخاطر يتخفّى الموتُ في كل منعطفاتها، وليبيا نفسها ضحية استعباد آخر. 
هذا الاستعباد بشكله الفجّ الذي حرّمته المواثيق الدولية، بعدما كان، قروناً وعقوداً، نشاطًا  اقتصاديًا رائجًا وشرعيًا، يبدأ من سواحل إفريقيا وينتهي في المستعمرات الأميركية، ليس النمط الوحيد للعبودية، فالعبودية والرق شائعان حتى في أيامنا هذه بأشكال مقنعة، ربما لعبت وتلعب الحروب دورًا محوريًا في ازدهار هذه الظاهرة، لكن جذورها ليست ضاربة في التاريخ فقط، بل هي متغلغلة في الثقافة السائدة لشعوب، عديدة، وتمارس بطرق مختلفة حتى في وقتنا الراهن.
العبودية والاسترقاق هما نقيض الحرّيَّة والاستقلال، ومعناهما لغويًا وقوع الشَّخص تحت قهر داخليّ أو خارجيّ، والقهر هو أعلى درجة من تحمل الألم والضغط المعنوي والمادي، هو انعدام القدرة على المواجهة ومكابدة الألم بشكل أعزل مجرد، فالعبودية إذن هي استغلال الحاجة والضعف بأكثف صورة يكون عليها الاستغلال. وإذا كانت العبودية بشكلها النمطي الفج الذي باتت تعافه الضمائر البشرية، وتحرمه القوانين الدولية، يعود إلى الواجهة من جديد، ومن سواحل إفريقية على البحر الأبيض المتوسط، فإن العبودية لم تُلغَ من حياة شعوب هذه المناطق المنكوبة ومثيلاتها، ولم يتم القضاء على أشكالها المقنعة في المجتمعات، وليست موريتانيا، المثال الذي يضرب على العبودية والاسترقاق، وحيدة في هذا المجال، بل لأن ظاهرة العبودية ما زالت راسخة في الثقافة الشعبية الموريتانية، باعتبارها نشاطًا اجتماعيًا متجذرًا في التاريخ، وأمثالها الشعبية كما شعرها الشعبي مثالٌ واضحٌ لترسخ إيديولوجية الاستعباد، وما يرتبط به من نظرة تراتبية طبقية. ومن نافلة القول إن هذه الإيديولوجيا مركَّبٌ من مشترك يتزاوج فيه تراث (وتاريخها) الممارسات الاسترقاقية البربرية والزنجية والعربية، كما يقول الباحث الموريتاني محمد الأمجد ولد محمد الأمين. حتى في سورية، البلد العلماني بشعاراته التي يقودها ويترأس حكوماتها المتلاحقة حزبٌ يعرّف نفسه تقدمياً وانقلابياً مناهضاً للرجعية الداعي إلى التحرّر، والبلد الذي تعرض أبناؤه لأبشع أشكال العبودية والاستغلال، خصوصاً أطفاله ونساؤه، فإن العبودية كانت منتعشة في مفاصل الحياة، يباركها نظام قائم على الفساد والقمع، بمباركة رجال دين يعزّزون الولاء المطلق الذي يقارب العبودية، أو ربما هو العبودية بعينها، انطلاقًا من طاعة المرأة زوجها إلى طاعة الولي لولي أمره، وصولاً إلى طاعة الحاكم مهما بلغ من الجبروت والطغيان. 
في سورية العلمانية التي يحكمها حزبٌ يردّد أطفاله الشعارات في صباحات مدارسهم وأهمها الحرية. المرأة عبدة للرجل بضمانة القانون المستمد من الشريعة، وهي عبدة طالما لا تمتلك حرية الإرادة والقرار، وعبدة لمنظومة القيم والأعراف. الفرد الذي يجب أن يكون مواطنًا في دولة القانون هو عبد، لأن القانون منتهك ومستعبد لنوايا أصحاب القرار والنفوذ، يُخترق بسفورٍ قد يصل إلى حدّ الفجور. الفرد الذي من حقه أن يكون مواطنًا يتمتع بحقوقه الإنسانية هو عبدٌ، طالما هو مسلوب القرار، مهدد بالعقاب والاعتقال، فيما لو تفوَّه برأيه. عليه أن يكون بلا صوت، لكي يكون صالحًا. الفرد عبد في عمله، إذا لم يكن مدعومًا من جهة متنفذة، وعبد للفساد لو انزلق وتورّط فيه، وما أكثر المنزلقات. عبد في الخدمة الإلزامية، فيكفي أن تكون الخدمة لصالح الحرب إلزامية من دون إشراكه في قرار الحرب، مهما كان شكلها وهدفها واستهدافها، ليكون عبدًا. والعسكريُّ عبدٌ أيضًا في أوقات الهدنة مع الحروب، يصل استعباده إلى حدّ استخدامه للسخرة، من العمل الخاص في مزارع رؤسائه وأصحاب النفوذ إلى الاستخدام في البيوت خادماً يقوم بالأعمال البيتية وخدمة أسر رؤسائه، من دون أن يمتلك الحق في الرفض أو الاعتذار، فالقاعدة الأساسية في الخدمة الإلزامية هي: نفّذْ ثم اعترضْ. لكن من يملك الجرأة على الاعتراض؟ الفرد عبدٌ طالما هو محروم من فرديته ومنتهك في إنسانيته، من دون أن يملك حق الاعتراض، هو ملزم بعقود إذعان في حياته يفرضها منطق القوة.
لا يمكن القول إن العبودية في عصر الحريات وحقوق الإنسان قد استؤصلت من المجتمعات العربية، بل ما زالت ظاهرةً نشطةً ومزدهرةً تخفي في باطنها أنينًا مكبوتًا لأناس مقهورين، رصده الأدب في عصرنا الحالي، وانشغلت رواياتٌ كثيرة به باعتباره قضية إنسانية اجتماعية، من الخليج العربي إلى المغرب العربي، مثل رواية أيام الزغنبوت لمريم الغفلي، وفستق عبيد لسميحة خريس، وريحانة لميسون صقر، وساق البامبو لسعود السنعوسي وشوق الدرويش لحمور زيادة، والقائمة تطول لتقدم الدليل على تمكن العبودية وثقافتها في الوعي الجمعي والنشاط الاجتماعي.
تطول قائمة العبودية، وليست تلك الصفقات التي يجري الحديث عنها أخيراً في السواحل الليبية، والتي ربما بيع فيها أفراد سوريون، مثلما بيعوا بطرقٍ مواربة في مخيمات اللجوء، بيع الأطفال والنساء، واستعبد الأطفال والنساء في أماكن النزاع في سورية، تكفي ممارسات رجال ما يطلق عليه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أماكن سيطرته في استعباد النساء تحت مسميات مختلفة مدعومة بفتاوى دينية، من إماء وملك يمين وتزويج قسري، يكفي تطويع الأطفال وتدريبهم للقتال، وهم قاصرون لا يملكون أهلية القرار وحق القرار. وليس الحال بأفضل في المناطق الواقعة تحت سيطرة الفصائل المسلحة الأخرى. 
ليست العبودية استعباد دولةٍ دولةً أخرى مستعمرة، فالاستعمار بشكله المباشر تقلص كثيرًا في العصر الراهن، ولكن هناك الاستعمار بالتبعية، تبعية الأنظمة وارتباطها بأنظمة أخرى، وتبعية جماعاتٍ نافذة لدى بعض الشعوب تجاه جهاتٍ خارجية ومرجعيات دينية أو سياسية. هذه التبعيات تخلق الاستعباد متوالية هندسية، تتغلغل في زوايا الحياة المجتمعية، تحت خيمة الاستبداد والجهل والفقر وكم الأفواه وشل الحراك السياسي. وإذا حاولت الشعوب التمرد تتدخل القوى الطامعة وقوى الاستكبار العالمي لإشعال الحروب، وإخماد الانتفاضات. وبالتالي، سيزداد الحلم بالخلاص، ولو في قوارب الموت، اتساعًا، على الرغم من مخاطره التي لم يعد الموت أفظعها، بل الشراء في أسواق النخاسة الخفية، الأسواق السوداء للاتجار بالبشر.

نقلا عن العربي الجديد