لا يخفى مطلقا على الباحثين و المهتمين و المتتبعين لشأن و أحوال و سياقات الحراك العام لموريتانيا ضمن فضاءاتها الإقليمية و القارية و العالمية أنها يعاني على الرغم من الجهود المضنية الحثيثة التي تبذل على كافة الأصعدة، تأخرا عن المسايرة الحضارية و ضعفا في مواكبة الحداثة ضمن العملية التنموية البطيئة و قصورا ثقافيا لافتا و علميا صارخا عن اللحاق بمضمار التطور و مصاحبة قافلة الركب الأممي الذي بدأ منذ أمد يوحد المسار و يتقاسم سمات و أطر و آليات تحركه إلى ميادين النمو الرحبة و آفاق الإشعاع الواسعة و الحضور النوعي في بناء عولمة منصفة. لا المجال الاقتصادي يحقق بفعل طاقات و قدرات أبناء البلد المتعلمين و المتكونين و المتخصصين في شتى المجالات التي تهمه بلدا زاخرا بالثروات الهائلة من المعادن و الأراضي الخصبة الشاسعة على امتداد ضفة نهر معطاء و مقدرات متنوعة من ثروة حيوانية معتبرة إلى أخرى لا تقل تعددا و كثرة في مياهه الاقليمية الأطلسية من أسماك و بترول و غاز و غابات الطحالب و الأعشاب تحيط بها و تحفظها المراجين النفيسة في أعماقها و غيرها من التي تفيد جميعها الصناعة الطبية و الكيميائية و التجميلية و غيرها كثير. كما أنه لا يفوت مطلقا هؤلاء الباحثين و المهتمين و المتتبعين دون كبير عناء غيابُ أية مظاهر صناعة أولية أو تحويلية لموارد البلد الخام المتنوعة رغم المال الوفير الحاصل من تصديرها و الذي يجنيه منه الكثيرون ممن يدعون رجال الأعمال بالتعامل المشيب بالتحايل و الرشوة مع قطاعات الدولة في سياق و مضامين مشاريعها التنموية، و بالامتناع المقنع عن دفع الضرائب، و بتعاطي التهريب فيكدسونها أموالا طائلة في المصارف المحلية و التي هي ملك بعضهم و الخارجية في إبعادها و قصد تأمينها بعيدا عن استثمارها فيما يصنع للبلد قواعد الاستقلالية و يشغل مواطنيها و يدخلها بقوة و تميز في سوق المنافسة و التبادل الإقليمي و القاري و العالمي. و بالطبع فإنه لا يخفى كذلك على كل هؤلاء المهتمين ما هو واقع و معاش من تباين و فروق بين مكونات الشعب بدأت تتكشف شيئا فشيئا عن ظواهر تشي بتشرذم تزيد حدته في النسيج الاجتماعي العام و الذي ظل على علاته و إلى حين قريب يحفظه المعتقد الواحد و التكامل الوظيفي، وهو التشرذم تاذي لا تنكره العين، تلوكه الألسن و لا يغطيه حراك سياسي عام أحادي الوجهة و مطلقها إلى "الحكم و المال"، على خلفية تباينات اجتماعية لا تجد طريقها إلى الحلول الناجعة و كذلك هجرات عارمة من الجوار و أبعد و لا تسد رغم كثرة أفرادها و بقلة اختصاصاتها وضعف خبرتها أدنى حاجة من قليل العمل المتاح في ميدان البناء و التشييد. هجرات تزداد أعدادها باضطراد في غفلة من أهل البلد - الذين ضرب عليهم الكسل و مد اليد و الاستكانة أسورا سميكة لا تقهر- عما تحمله من غريب العادات و هجين المسلكيات و مضر المفاهيم. و لأن القِدر ما زالت تغلي في القعر فإن الغفلة ما تزال سيدة الموقف تحجب قرب الفوران عن الحقيقة المرة و الملازمة عين الشمس عند الشروق. حقيقتان جليتان لا يريد أي كان من السياسيين و المثقفين و أرباب المال و الأعمال أن يدرك خفاياهما المُرة و تداعياتهما السلبية على البلاد بالرغم من موقعها الفريد و أهميتها الحضارية و الاستراتيجية و كذلك مضي أكثر من نصف قرن على استقلالها و تخريج العالم في كلياته و معاهده و مراكزه لثلاثة أجيال من أبنائها المتعلمين في شتى ضروب المعارف و العلوم و كل نواحي العمل السياسي و مختلف الأيديولوجيات التي دفعت الحركات الثورية و وجهتها و حملتها مضامين رسائلها و زودتها بمختلف آليات نشرها و تطبيقها. أما الحقيقة الأولى فتكمن في: أن العمل السياسي الذي لم يُسجل لهذه البلاد بشأنه في كل تاريخها أي إخبار إلا ما يكون مما ورد في كتاب "الإشارة في تدبير الإمارة" للإمام الحضرامي المتوفى سنة 489هـ و قد أراد لمحتواه أن ينظم وضعا طبعه الانفلات الأمني و الفوضى العارمة و قد أسماها "السيبة" و لم يفلح رغم علمه الغزير المحمود و صلاحه البالغ المشهود. و إن العمل السياسي الذي لم يكن يوما تقليدا محليا متبعا في هذه البلاد العصية على النظام قد بدأ "تلقينا" مفروضا و مؤطرا من المستعمر الذي أراد أن يدمج مستعمريه من "المحليين Les indigènes " التسمية التي تُعبر ضمنيا عن نظرة دونية، في سياقاته الحضارية التوسعية حيث أسمى كل عملية احتضان أهالي مستعمراته "Mission civilisatrice de pacification مهمة تحضير و تهدئة الطباع الحادة". و تمثلت المهمة بالنسبة لموريتانيا "الأرض السائبة" في مشروع "كزافييه كبولاني 1866 - Xavier Cappolani 1905". و أما الحجقيقة الثانية فتمثلت في: · أن الحركة الثقافية و الفكرية الحديثة ولدت في البلاد قبيل الاستقلال بقليل ضمن سياقات التأثيرات الخارجية "العربية" و "الغربية" التي كانت في أوج ازدهارها حتى قفزت على الخصوصيات و الميزات الحضارية و الفكرية و الثقافية للشعب الموريتاني و لم تهتم بها فيما لم تُثن نفسها عن الخوض بحماس منقطع النظير في الخلافات العقدية المستجلبة و تبنيها حتى باتت في حل من الوطن و متطلبات قيامه في إطار الدولة الحديثة التي أختار لها المستعمر من دون اعتراض أو مناقشة أو استشارة اسم موريتانيا Mauritanie و وضع الدعائم و أطلق بدايات التشكل فكان بذلك المُؤسسَ على الرغم من نواياه الاستعمارية و أطماعه الثقافية من خلال فرض لغته و التمكين لتوسيع دائرة إشعاعها و الإشراف على صنع نخب تتبناها و تحميها. و لا شك أنه في ظرف سياسي و فكري و ثقافي غير سوي كما هو واقع الحال صنعته الأقدار و غياب مفهوم الوطن عن الأذهان و في الضمائر تتطلب الأمور على يد كل النخب رغم نواقصها الجمة و تقاعسها المشهود عن تحرير البلد من قيود اللادولة الرابضة في العقول الباطنية مراجعة شجاعة و إرادة مبتكرة لفرض التغيير و التحول علما بأنه واقع حال يفتقد إلى المستندات و الأسس التاريخية للاتصال مع الحاضر باختلالاته. و إذ الأمور على هذا النحو فإنه لا بد بدء من وقفة تأمل عميقة للاتفاق على "أقل ممكن" من الوفاق يمهد لانطلاقة جديدة تعترف بأخطاء الماضي و تعتمدها باستدراك في محله أن الماضي يظل بكل أحواله و صوره المرجع الأول و المنطلق الصحيح الذي لا غنى عنه لضمان الاستمرار. فهل تراجع النخب المثقفة تعليما و الفكرية تحصيلا و العلمية اكتسابا و السياسة عملا نفسها فتغير أحوالها و تحمل بصدق الأمانات الملقاة عل عاتقها و تُطلق معا صحوة جديدة لانتشال البلد من تعثر المسار و تراكم القضايا الشائكة و البعد عن طريق ركب الأمم الذي لا يرد ملتحقا و لا ينتظر متأخرا و لا يهدي ضالا عن السبيل؟ و هل يتمثلون قول عمر الخيام: هبوا املؤوا كأس المنى قبل أن *** تملأ كأس العمر كف القدر
الولي ولد سيد هيبه