
بصراحة، قرأت مقال النائب بيرام أكثر من مرة. فيه أفكار تستحق الوقوف، وفيه مبالغات لا يمكن تركها تمرّ دون تعليق.. ليس دفاعًا أعمى عن النظام، لكن لأن من الإنصاف وضع الأمور في سياقها الحقيقي.
أول ما يلفت الانتباه في طرح بيرام أنه يعيد كل اختلالات الدولة إلى “جوهر قبلي متخلف” وكأن البلد لم يخرج يومًا من هذه الدائرة. الحقيقة أن هذا توصيف فيه شيء من القسوة، لأن الدولة — شئنا أم أبينا — بدأت منذ سنوات تخفف من حضور القبيلة داخل الإدارة، ليس بالكلام فقط، بل بمسابقات مفتوحة، وتعيينات رقمية، وبتراجع سطوة ما كان يُسمى “شيوخ التوصيات”.
صحيح أن الطريق طويل، لكن القول إن الدولة نسخة قبلية خالصة فيه قدر من التعميم لا يخدم الحقيقة.
ثم هناك مسألة الأرقام: 23 وزيرًا من البيظان ووزير من السوننكي و3 أو 4 من الهالبولار والحرّاطين.
هذه نظرة مجتزأة، لأن التمثيل لا يكون فقط في الحكومة؛ بل في من يسيرون القطاعات من الداخل: الأمن الغذائي، الصحة، البنى التحتية، الإسكان، المالية… وهذه القطاعات كلها تضم أسماء من مختلف المكوّنات، ويعرف ذلك كل من يتابع الهيكلة من الداخل.
وبصراحة، لا يمكن اختزال المشاركة الوطنية في لون الوزراء وحده.
أما البرلمان الذي وصفه بيرام بأنه نتاج “شراء ذمم وتزوير”، فهذا كلام ثقيل.
إذا كانت الانتخابات بهذا السوء، فكيف أصبح هو نفسه نائبًا؟ هل كان التزوير في الاتجاه المعاكس ثم صحّح مساره عند مقعده فقط؟
الانتخابات ليست مثالية، نعم، لكنها شهدت مراقبين، وشاركت فيها المعارضة بأكملها، ولم يطعن أي حزب كبير في شرعية النتائج كما كان يحدث قبل عشر سنوات فقط.
نقطة أخرى: بيرام يصف الدولة بأنها تحولت إلى “اتحاد شبكات زبونية شرهة”.
ماذا عن تقارير محكمة الحسابات التي نوقشت علنًا؟ وماذا عن ملفات الفساد التي وصلت القضاء لأول مرة في تاريخ الدولة؟
الأكيد أن هناك من تم إقصاؤه، ومن تمت محاسبته، ومن فُتح معه ملف لمجرد شكّ بسيط. هل هذا يحدث في دولة تريد الحفاظ على الفساد؟ لا أعتقد.
ولأكون منصفًا، بيرام كان محقًا حين تحدث عن الوعود التي تحتاج إلى ترجمة أسرع. الناس ملت الخطاب وتريد نتائج على الأرض.
لكن أيضًا، لا يمكن تجاهل أن تآزر — رغم ملاحظاتي الشخصية على أدائها — غطّت آلاف الأسر، وأن الإصلاح في رواتب الموظفين ومشاريع الحوض الشرقي لم تكن “فولكلورًا”، بل أثرها ملموس عند الناس، وأحيانًا واضح أكثر من الصخب السياسي نفسه.
أما حديثه عن أن زيارة الرئيس كانت “قبلية” فهذا التفسير يحتاج قليلًا من الهدوء.
المجتمع نفسه قبلي، ولا يمكنك أن تمنع الناس من استقبال رئيسهم بالطريقة التي يعرفونها.
واللهجة التي ظهر بها الرئيس وهو يمنع الموظفين من الحشد القبلي هي إشارة على الأقل لنية في تغيير هذا السلوك، حتى لو كان التنفيذ بطيئًا أو متناقضًا في بعض التفاصيل.
التناقض جزء من التحول، وليس نهاية له.
وفي النهاية، الدعوة إلى “قطيعة جذرية” تقلب الدولة رأسًا على عقب هي أقرب إلى نظرية سياسية شعرية منها إلى خطة واقعية.
الدول تُصلح تدريجيًا، وإلا دخلت في فوضى لن يخرج منها أحد، لا موالاة ولا معارضة.
والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها — حتى لو اختلفنا — هي أن الرئيس ما يزال يملك وقتًا وشرعية كافية لإصلاح ما يمكن إصلاحه.
لكن أيضًا المعارضة لها دور مهم في رقابة هذا الإصلاح، فقط دون أن نحرق المراكب ونصوّر كل شيء كأنه خراب كامل.
موريتانيا ليست جنة وليست جحيمًا.
هي بلد في منتصف الطريق — حرفيًا — ويحتاج إلى خطاب يعترف بالنقائص دون أن يدفن الإنجازات، وهذا ما نحتاجه اليوم.
إبراهيم ولد الطيب

