عن غلق قطر لمكتب حماس في الدوحة /الدكتور محمد ولد الراظي

20 نوفمبر, 2024 - 21:21
الدكتور محمد الراظي /استاذ جامعي

ما كان من المناسب ولا من الحصيف على قطر في هذا التوقيت بالذات أن  تضطر الناس أن يكتبوا عن دورها في المحنة الفلسطينية الحالية ولا أن يتعرضوا لما كان لها في الماضي من أدوار غير حميدة في شؤون المنطقة بل كان من المتوقع أن تواصل التستر على أمرها اليوم والدفع بصورة مغايرة باستضافتها لقادة من حماس و بما تلعبه من دور معلن في نقل البريد بين المقاومة والمعتدين ....

لو أنها ظلت على حالها تستضيف المجاهدين وتسعي بالبريد منهم وإليهم  وتنقل قناتها الوجع الفلسطيني لكل أصقاع العالم بمهنية عالية واحترافية راقية لما أضطر أحد أن يتعرض في هذا الوقت لأدوارها السابقة والحالية  ،  فالمرء حين يكون  في مواجهة وجودية مع عدو لدود  لا تقيده قوانين ولا شرائع ، يتوجب عليه أن يتجنب كل ما يزيد  قومه فرقة وأن يتغافل عن زلات وأخطاء  الأشقاء لعل الله يوما يهديهم سبل الرشاد...... فقد آثر  رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو ربه خيرا لأهل الطائف يوم آذوه عِوض أن يسأله أن يطبق عليهم الأخشبين فلربما يخرج منهم  من يكون فيه خير للمسلمين فخرج من أهل الطائف قادة  فتحوا أمصارا تغص اليوم بما يقارب مليار نفس من المسلمين ولنا في رسول الله أسوة حسنة...

أصدرت الخارجية  القطرية بيانا يقول إن مكتب حماس في الدوحة كان فقط من أجل التواصل في موضوع التفاوض وأن المفاوضات قد وصلت لطريق مسدود فانتفت الأسباب التي بررت وجوده أصلا وحين تنتفي الأسباب يتوقف كل ما ينتج عنها من أثر ويعرف القطريون قبل غيرهم  أن مكتب حماس في الدوحة لم يكن وليد السابع من أكتوبر بل أعلن عنه رسميا  منذ عام 2012 وقد يكون وجوده سبق الإعلان عنه  وكانت قطر تحتاجه في يوميات انخراطها في شأن فلسطيني آخر سابق لطوفان الأقصى وآخر لاحق به وامتداد له  وحين توقف ما هو مطلوب منها أو ماهي تقدر عليه غلقت الأبواب وأشارت على ضيوفها أن انصرفوا .... 

ضاقت قطر بمكتب حماس ولم تخبر عن مكتب إسرائيل التجاري في الدوحة ولا عن أسباب وجوده  أصلا وهل انتفت هذه الأسباب  أم أنها ليست من الأسباب التي تنتفي ، فليس يخفى على أحد أن مكتبا تجاريا إسرائيليا هو مكتب للموساد  والخارجية الإسرائيلية والأذرع الصهيونية بتعددها وتنوعها وقد افتتح عام 2000 غير بعيد من قاعدة السيلية وما تزال مشرعة أبوابه  وما تزال القاعدة تعمل بالليل والنهار....

فلماذا تغلق قطر مكتب حماس لديها الآن تحديدا ؟ وما الذي يزعجها في بقائه مفتوحا ؟ ولماذا استضافت قادة حماس يوم لم تكن حاجة كبيرة لهم في ذلك ثم تطرهم يوم ضاقت الأرض بهم ودمر الكيان - ومن لف لفه من الأهل والأقرببن-  أرضهم وقتل نساءهم و شيبهم وولدانهم وأحكم حصارا خانقا على كل منافذ العبور بالبر والماء ؟ وإلى من تَكِل قطر  هؤلاء المجاهدين الذين ظنوا بها ملاذا آمنا وحلوا بأرضها مستجيرين؟ ولماذا تتعجل في طردهم وتختار أسوأ وقت لأسوإ فعل أن تطرد مسلما استجار بها من بطش اليهود!!

قد تكون الخطوة القطرية نتيجة لأن حماس رفضت صفقة "سلام" تمنح اليسار الأمريكي ورقة تساعده في كسب السباق الرئاسي من خلال جلب الشباب الجامعي الثائر المطالب بوقف العدوان   وجلب الجاليات الإسلامية والعربية للصف الديمقراطي  واليسار يَهُمٌُ قطر كثيرا لأنه ينظر لعظمة أمريكا من خلال تمدد أذرعها في العالم  وتَهُمٌُه قطر أكثر من غيرها لأن بها قاعدة أمريكا الكبرى ولأن لها ثروة هائلة لا رقيب عليها  ولا أحدا يسائل عن صرفها تمول أنشطة أمريكا  التوسعية في المنطقة. 

رأت المشيخة القطرية في رفض  حماس لصفقتها المقترحة  تعريضا بفرص  اليسار الديمقراطي في الفوز في السباق الرئاسي  وفي ذلك تعريض بمكانة قطر ودورها فكان على حماس حين رفضت أن تدفع  الثمن فتلقت الأمر بالرحيل..... 

لكن السيئ في الأمر ليس أن حماس سترحل من قطر لجهة لا تعلمها  فحسب  بل إن  ما هو أسوأ أن الخطوة القطرية جعلت الحركة  في وضع من يرفض وقف إطلاق النار وأحيت الصورة النمطية التي خلقت عنها الدعاية الصهيونية في أوساط الرأي العام العالمي "غولا إرهابيا يشن الحروب ويرفض إيقافها..." ؛ هنا توقف الدور القطري واليوم تخبر قطر أن أعضاء المكتب خرجوا ولا يخبر أي طرف من هذا العالم العربي والإسلامي الفسيح أين نزلوا.. .!!!!!

فلماذا انتهى الدور القطري الآن ؟ وكيف بدأ هذا الدور في محنة القضية الفلسطينية عموما ؟ 

 قد تكون نهاية الدور القطري بسبب أن تفرد أمريكا بموضوع الصراع في المنطقة قد انتهى  ولم يعد لللاعبين الصغار  من دور فقد بدأت العملية تدار من قبل لاعبين أقوى وأكثر تأثيرا   .....تحدثت أنباء مؤخرا وتطابقت الكثير من مصادرها أن مباحثات قد بدأت بين أمريكا وروسيا وإيران حول موضوع الحرب الصهيونية على غزة ولبنان ؛ لاعبون كبار كل منهم يمسك بقوة بجزء من الملف الشائك ويحسب مصالحه بدقة ويعرف كيف يحصل عليها  والمحادثات بينهم  مباشرة ولم تعد حاجة لمن يوصل البريد من عرب هذا الزمان.....

وقد يكون القطريون في إطار مراجعة علاقاتهم الخليجية وخاصة مع الإمارات قد قرروا دخول "البيت إبراهيم" فيكون ذلك منهم عربونا ثمينا للرئيس الأمريكي القادم الذي هو من بشر بالمشروع  ورعاه  وأفضل ما يُتَقرب به للإمارات طرد حماس.

من شأن هذه الخطوة أن  تخلق  ثقلا موازيا  أو محسوسا على الأقل أمام السعوديبن داخل البيت الخليجي فالمشيخة القطرية لا تكن ودا كبيرا للسعودية ومن شأنها أيضا أن تجعل من المشيخة الغنية عنصرا محوريا في المشهد الإقليمي في التعامل مع زحف الصين ومنظومتها "بريكس" ومتغيرات النظام العالمي الجديد الذي سيشهد انكفاء أمريكا المتسارع عن بقية العالم من جهة وتوجه  "بيركس" المتسارع نحو هذا العالم من جهة أخري..... 

لقد كشف الموقف القطري  ماكان قد يكون خفي على البعض من أن لقطر دورا مرسوما لا تحيد عنه يتناسب مع حجمها وموقعها الجغرافي وثروتها الهائلة  وعلاقة الأسرة الحاكمة فيها بفصائل المقاومة الفلسطينية وبإسرائيل وتتغير وفق السياقات الزمنية ومسار العلاقات الدولية والإقليمية....

إن التعرض للموقف القطري من محنة فلسطين أصبح ضروريا ولا ينبغي التخلف عن تبيانه من أي كان فذلك  سيساهم في تصويب الكثير من التصورات والرؤى غير الدقيقة و سيساعد في تخفيف الضغط النفسي عن إخواننا المرابطين من أن الخذلان الذي تعرضوا له هذه المرة لم يأت -كما قد يظن بعضهم - من سند مؤمن بقضيتهم فيصيبهم الإحباط أن الأهل هجروهم  والأقربون وأن القوم انفضوا من حولهم وأن العيب فيهم لا في غيرهم........

العيب في العرب جميعا والمسلمين كل له طبعته من هذا العيب وكل له دور مرسوم لا يحيد عنه والأدوار كلها مترابطة برعاية أمريكا وربيبتها إسرائيل .... 

الذي حصل من قطر اليوم هو مجرد فصل من فصول هذا التآمر العربي الرسمي، فتارة يكون التآمر بالمشاركة الفعلية في الإبادة وتارة يكون  بالحياد المعلن والتحريض الخفي فلم يترك الصحفي الاستقصائي "بوب وودورد"  في كتابه "الحرب"  ما يتدثر به أحد  فقد كشف كل مستور  ، ويأتي التآمر مرة بقفازات من حرير ناعم يستظهر بها بعض الأخوة لرسم دورهم  ك"وسيط مؤتمن"  كلما استكملت اسرائيل فصلا من فصول حربها ينشط لتحويل النصر التكتيكي الإسرائيلي إلى منجز سياسي وستراتيجي يمكث لسنين ........

هو ذاته الدور الذي لعبوه يوم كانت السيلية منطلق العدوان ومركز إدارته على العراق العربي الثائر وهو ذات الدور الذي لعبوه في العدوان على ليبيا وسوريا واليمن السعيد.....

فكيف بدأ الدور القطري في محنة فلسطين ؟

لماذا تنقلب حماس على السلطة الفلسطينية ؟ ومن شجع انفصال غزة ؟ ومن موله ومن رعاه؟ ولمصلحة من تنفصل غزة عن رام الله ؟ وهل يستقيم أن يطالب الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة وهو يفشل في جمع كلمته وتوحيد صفه ؟ ولماذا سكتت إسرائيل عن انفصال غزة ؟ ولماذا  هادنت حماس ولم تهادن حركة الجهاد الإسلامي والجماعتان من مشكاة واحدة لا يختلفان إلا في أمر واحد أن حماس لها جناح سياسي وتقبل بالسياسة والجهاد لا يقبل بغير البندقية ؟ 

كانت إسرائيل وأمريكا وراء فكرة اللعب على التناقضات الموجودة بين فتح والإخوان وكانت قطر عراب الفكرة ومدبر خيوط اللعبة  وحين فشلوا في دفع عرفات للإقتتال البيني  قتلوه وجاؤوا بمحمود عباس.

يجاهر المتطرفون الصهائنة أنهم يرفضون قيام دولة فلسطينية مستقلة ويرفضون اتفاقيات أوسلو وهم وراء اغتيال  رابين وتقوم فلستهم على إذكاء الصراع ببن الفلسطينيين لتفخيخ أي اتفاق بأية رعاية كان وأنهم حين ينجحون في الفصل بين غزة ورام الله يجعلون مطالبتهم بالقبول بدولة فلسطينية أمرا  في غير محله أو على الأقل غير وارد قبل توحيد الأقاليم التي حازت شكلا من السلطة الوطنية وأن من لم ينجح في توحيد بيته ومن لم يأمنه ابن جلدته لا يمكن الوثوق به أنه سيرعى حدودا آمنة لكيانهم وأنهم لا يمكنهم السماح بدولة تتقاتل أقاليمها ويدفعون  أن الحديث عن دولة فلسطينية يسبقه أولا معرفة الوسيط الفسلسطيني هل هو غزة أم رام الله.....

كان على قطر وغيرها من العرب أن يسعوا لجمع غزة ورام الله لكن قطر نحت منحى مغايرا فاحتضنت غزة وشجعت الإنفصال بالتعاون مع أمريكا وإسرائيل فوصلت المحنة الفلسطيتية لما وصلت إليه اليوم !!!!

غررت قطر بالقيادة السياسية لحماس وأوهمتها بحكم علاقاتها بأمريكا  أنها ترعى مسارا سيفضي لدولة فلسطينية ولكن الجناح العسكري للحركة نجا من الشراك  فتفرغ تحت عباءة المعادلة الجديدة لبناء قوة عسكرية عظيمة أذهلت العالم وخربت أسس الدعوة الصهيونية ففجر طوفان الأقصى الذي  يبدو أنه فاجأ القطريين وفاجأ الجناح السياسي لحماس وفاجأ تركيا وإيران والجميع.... 

لقد بدأت الأقنعة تتساقط فاليوم تدفع حماس ثمن انخداعها بالأخوة القطرية وغدا قد يجد حزب الله اللبناني نفسه قربانا على مذبح المصالح الإيرانية  وسيدرك الجميع أن الأنظمة لايهمها غير مصالحها فإن كانت تعبر عن نبض شعبها تكون مصالحه هي البوصلة وإن كان لا يهمها غير الكرسي يكون بقاؤها وأسباب استمراه هو المحدد الحصري لسياساتها وسيكتشف الجميع أن من يهمه الهم العربي والوجع العربي حصرا قد استوطن باطن الأرض منذ زمن طويل  تغمدهم الله بواسع رحمته واسكنهم فسيح جناته.