يحدث كثيرا أن يغفل الواحد منّا عن رصيده في الهاتف، ويماطل في إعادة شحنه، حتى يفاجأ وهو يريد الاتّصال بأحد أصدقائه أو أقاربه بالمنبّه الآلي يخبره بأنّ رصيده غير كافٍ لإجراء تلك المكالمة، وأنّ عليه إعادة تعبئته ليتسنّى له الاتّصال بالرّقم المطلوب؛ فيأسف لذلك، ويزداد أسفه كلّما كان الاتّصال أكثر أهمية وكلّما كان الموقف الذي يواجهه في مكان أو وقت لا يمكنه معه أن يعبّئ رصيده.
هذا الموقف الذي ما من شكّ في أنّ كلّ واحد منّا قد واجهه، ربّما يتكرّر في حياتنا مع رصيد آخر أكثر أهمية من رصيد الهاتف، هو رصيد الأعمال الصّالحة والحسنات، الذي ربّما ينشغل عنه العبد بأرصدة الدّنيا وشواغلها، حتى يصل إلى حدّ يصبح معه غير كافٍ لتفريج همّ أو كشف كربة أو إجابة دعاء أو تحصيل مطلب؛ يغفل العبد عن ميزان حسناته وتنسيه الدّنيا أن يدّخر لنفسه أعمالا صالحة يجد أثرها في الأوقات الصعبة والمواقف الحرجة، وبخاصّة في زمن مثل زماننا هذا الذي تتدفّق فيه الشّبهات والشّهوات من كلّ حدب وصوب، ويحتاج فيه العبد المسلم رصيدا من الحسنات والأعمال الصّالحة يكون عونا له -بعد رحمة الله- على الثّبات والنّجاة.
جميعنا نعلم حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار في جبل، ففوجئوا بصخرة تسدّ مدخله، فسألوا الله بأخلص أعمالهم، واستحضر كلّ واحد منهم أعزّ وأغلى رصيد ادّخره للنّجاة، ليس في الآخرة فحسب، وإنّما أيضا في هذه الحياة الدّنيا، جميعنا نعلم هذه القصّة، لكن من منّا سأل نفسه وتساءل: ماذا لو كنتُ رابع أولئك الثّلاثة؛ ما هو العمل الصّالح الخالص الذي كنتُ سأدعو الله به؟
كم مرّة ابتلي الواحد منّا بسطوة نفسه أو بقسوة قلبه أو بُلي ببلية تأخّر الفرج منها بسبب أنّ رصيده من الأعمال الصّالحة والحسنات لم يكن كافيا، ولولا رحمة الله لدامت عليه تلك الحال؟ في الأثر أنّ العبد المطيع الذّاكر لله تعالى، إذا أصابته شدّة أو سأل الله سبحانه حاجة، قالت الملائكة: “يا ربّ صوت معروف، من عبد معروف”، أمّا العبد الغافل المعْرض عن الله، فإنّه إذا دعاه وسأله، قالت الملائكة: “يا ربّ، صوت منكر، من عبد منكر”.. نبيّ الله يونس –عليه السّلام- حينما دعا الله -جلّ في علاه- قائلا “لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين”، قالت الملائكة: يا ربّ صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة. فقال جلّ شأنه: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا ربّ، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يُرفع له عمل متقبّل ودعوة مجابة؟ يا ربنا، أو لا ترحم ما كان يصنعه في الرّخاء فتنجّيه من البلاء؟ قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء. (رواه ابن أبي حاتم في تفسيره).
رصيد الأعمال الصّالحة الخالصة لوجه الله ربّ البريات، هو أرجى ما يؤمّله العبد المؤمن -بعد رحمة الله- لإجابة الدّعوات ونيل المطالب وتحقيق الأمنيات، والثّبات أمام الشّهوات والشّبهات، والنّجاة من الخطوب والمدلهمّات، وهو خير ما يدّخره العبد -بعد رجاء رحمة الله- لما بعد الممات؛ لظلمة القبر وأهوال يوم الكربات، وكلّما كان العمل أخلص لله وأحبّ إليه جلّ في علاه وأنفع لعباده، كان أثره في إجابة الدّعاء وكشف الهموم والغموم والكربات أعظم وأعظم، لأجل هذا فإنّه ينبغي للعبد المؤمن أن يكون أكثر حرصا على شحن رصيده من الأعمال الصّالحة والحسنات منه على شحن رصيد هاتفه، وأكثر اهتماما بما يصله بالخالق جلّ في علاه، منه على ما يصله بالمخلوقين الذين لا يملكون له نفعا ولا ضرّا إلا فيما أذن به الله.