كتبت هذه المقالة قبل أسبوعين وأجلت نشرها لما اعتمل من أحداث كبيرة في لبنان مخافة أن تحجب أهمية موضوعها.
أحمدو مختار مبو، قمة سامقة من قمم الأمة، غادر الدنيا الفانية ليلة الثلاثاء 24/9/2024 وقد عمّر أزيد من قرن. لم يفقده بلده السنغال وأفريقيا والأمة الإسلامية، بل الإنسانية، فمن يطلع على سيرته الثرية بالعمل والإبداع أيما ثراء، سيدرك أن الأمة والإنسانية قد فقدا فعلا رمزا عظيما.
“سيرة كيلومترية”
وهذه شذرات منها. ولد في داكار سنة 1921، ونشأ في بيئة قروية في محافظة لوغا شمال غرب السنغال، وكان والده من الوجهاء الدينيين في منطقته. التحق بالكتّاب القرآني لثلاث سنوات ثم بالمدرسة الفرنسية، ثم تخرج بعدها من مدرسة للتجارة والمحاسبة، ثم حصل على الثانوية العامة في فرنسا سنة 1948 ثم شهادة دكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون لاحقا. عمل أستاذا للتاريخ والجغرافيا في بلدة روسو في جنوب موريتانيا (قبل الاستقلال). قبل هذا تخرج ضابطا في سلاح الجو الفرنسي من المدرسة العليا للميكانيكا العامة والكهرباء وتطوع للعمل في سلاح الجو مرتين خلال الحرب العالمية وأعفي في المرتين دون أن تذكر مصادر سيرته أسباب الإعفاء، وربما كانت اتجاهاته المناهضة للاستعمار السبب في ذلك، فقد ساهم في أنشطة “جمعية الطلبة الأفارقة في باريس” التي ستتطور إلى “فدرالية طلبة أفريقيا السوداء في فرنسا” وأصبح سكرتيرها العام سنة 1951. ومن دون شك، كانت لهذه الفدرالية علاقات مع ” جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين في فرنسا” (UENMF) التي تأسست سنة 1927 وكان مؤسسوها تونسيون ومنهم سالم الشاذلي وجزائريون ومنهم مالك بن نبي ومغاربة ومنهم محمد بن الحسن الوزاني. كانت تلك مرحلة حافلة بالأفكار الثورية والتحررية، وسيتولى أحمدو مختار مبو مهام مختلفة في مجالي التربية والتعليم قبل الاستقلال منها تكليفه سنة 1956 بمهام وزير التربية والتعليم، وقبلها كلف بمهمة إعادة هيكلة وتوجيه قطاع التعليم الأساسي في السينغال وموريتانيا قبل استقلال هذه الأخيرة. بعد الاستقلال (1960) تولى مهام وزارة التعليم أثناء أزمة 1968 وتبنى اتجاها إصلاحيا أساسيا لم يعجب الرئيس سنغور وفرنسا وقتها فأعفي من منصبه، ثم تولى مهام وزارة الثقافة بعدها سنة 1970. وسيسطع نجمه عندما تولى منصب رئيس منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) سنة 1974 وقد تولى قبلها مهام رفيعة في المنظمة، واستمر في رئاسته لها إلى سنة 1987.
سياسيا، انخرط رحمه الله في الأنشطة السياسية منذ شبابه المبكر خلال المرحلة الاستعمارية وفي مرحلة الاستقلال، ومما يؤثر عنه أنه قال “لا” للدستور الذي طرحه الجنرال دوغول سنة 1958 الذي حاول فيه كسب تأييد السينغاليين لنظام أقرب ما يكون إلى نوع من الاستقلال الذاتي مع البقاء تحت الوصاية الفرنسية. وبعد انتهاء مهامه كمدير عام لليونسكو، عاد للمساهمة في الحياة السياسية في بلده كنائب برلماني ورئيس لمجلس بلدية مدينة سان لوي التي بقيت لمدة طويلة بعد الاستقلال (1960) أهم مركز للفرنكوفونية في السينغال. وفي سن 87، وافق على ترأس “الحوار الوطني للسينغال” في إطار الجمعية الوطنية (البرلمان) سنة 2008 الذي ضم أحزاب المعارضة وعشرات من جمعيات المجتمع المدني بهدف رسم التوجهات لمعالجة المشكلات التي كان يعاني منها البلد في عهد الرئيس السابق عبد الله وادّ.
ولتكوين فكرة عن مكانة الرجل، فقد كرّمته عديد من الجامعات في القارات الخمس بـ 48 دكتوراه فخرية، وقلدته 56 دولة أرفع الأوسمة وستة جوائز ذهبية.
أعماله الكبرى
قادته ثقافته العالية وتجاربه المتنوعة والغنية منذ بدايات شبابه إلى وعي عميق بجوهر التحدي الذي كانت تواجهه البلدان والمجتمعات الأفريقية وقد عانت من بشاعات الاستعمار الأوروبي خمسة قرون، وسيصرح في يوم من الأيام عندما سئل عن أسباب اختياره للتاريخ كتخصص رئيسي قال “لقد كان اختيارا مقصودا، ولا أخفي أنه كان سياسيا، فقد قدّرت آنذاك أن أهم شيء بالنسبة لأفريقيا هو أن يكون هناك مثقفون (أفارقة طبعا) يعكفون على تاريخهم ويعيدوا الاعتبار لثقافاتهم الأفريقية، ويوقظوا اهتمامات الشباب بتاريخهم وبمشكلات العالم”. ومع أنه كان يعني تماما إعادة الاعتبار للثقافات الأفريقية الأصيلة، كل ثقافات القارة، لكن سيرته الشاملة وأعماله العظيمة تدل دون أدني شك على أن ذهنه واهتماماته كانا منصبّين بشكل خاص على الثقافات الإسلامية التي سادت في أفريقيا المسلمة منذ أن دخل الإسلام إلى أفريقيا في القرن الهجري الأول، واستمرت هذه الثقافات في النمو والازدهار إلى الآن رغم كل استراتيجيبات الإمبريالية الأوروبية وبشكل خاص الفرنسية لمحاولات استئصال الهوية الثقافية الإسلامية في أفريقيا المسلمة. لكنه لم يبخس أبدا مكانة الثقافات الأفريقية الأخرى في القارة، فقد كان الرجل مدركا تماما ومقتنعا بأهمية الأبعاد الإنسانية والأخلاقية والمعرفية في نظرته للثقافات الإنسانية عامة في مضامينها البانية النافعة للناس. وبالنسبة للثقافة الغربية فقد كان مدركا كذلك لقيمتها ككسب وتراث إنساني، وفي نفس الوقت، كان موقفه من جوانبها المظلمة كتوجهات إمبريالية وعنصرية متعالية واضحا تماما في تفكيره الاستراتيجي وفي عمله وإنتاجه العلمي، بعيدا عن الإيديولوجيا، كما كانت منهجيته في التخطيط لمشاريعه من موقعه في منظمة دولية كبيرة حساسة مثل يونسكو تظهر عبقرية حقيقية في مشاريعه الكبرى عبر البحث العلمي، والبحث العلمي الصارم فقط، وهذا ما أدى إلى نجاحه في مشروعين حيويين لهما قيمة تاريخية عالية بالنسبة لإفريقيا والأمة وعلى المستوى العالمي.
وأول م ما قام به رحمه الله حتى قبل أن يترأس يونسكو عندما كان مديرا للثقافة فيها، إطلاقه وتبنيه وإشرافه على المشروع الضخم موسوعة “تاريخ أفريقيا العام” الصادر عن يونسكو نفسها، وهو أعظم مرجع علمي في موضوعه على الإطلاق. أُطلق المشروع سنة 1964، واستنفر له أكثر من 230 مؤرخا وخبيرا، واستغرق العمل في الموسوعة أكثر من 35 سنة ليصدر في ثمانية مجلدات ضخمة من بينها مجلد كامل عن تاريخ المقاومات الإفريقية للاستعمار الأوروبي، كما تحتوي الموسوعة على كمّ كبير جدا من المراجع والوثائق والخرائط والإحصائيات والصور، وتعمل اليونسكو في السنوات الأخيرة على إصدار ثلاثة مجلدات إضافية جديدة للموسوعة، وقد صدرت الموسوعة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية. حرر الموسوعة كبار المتخصصين أفارقة وغربيين بمعايير علمية وأكاديمية تحت إشراف لجنة علمية دولية من كبار المؤرخين والخبراء المتخصصين وكان على رأسهم جوزيف. ك.زيربو (بوركينا فاسو)، ومن بين أعضاءها محمد الفاسي رحمه الله الذي حرر الفصلين الأول والثاني من الموسوعة حول ظهور الإسلام وانتشاره في أفريقيا.
ولتكوين فكرة عن الأهمية الاستثنائية لهذا العمل، تتكون المجلدات الثمانية من 7671 صفحة، وهذه عناوين المجلدات الثمانية: “المنهجية وأفريقيا قبل التاريخ” (873ص)، “”أفريقيا القديمة” (925ص)، “أفريقيا من ق7 إلى ق11 (954ص)، “أفريقيا من ق12 إلى ق16 (811ص)، “أفريقيا من ق16 إلى ق18” (1045ص)، “أفريقيا من ق18 إلى حوالي 1880” (936ص)، “أفريقيا تحت السيطرة الاستعمارية من 1880 إلى 1935” (937ص)، “أفريقيا منذ 1935” (1190ص). هذا بالإضافة إلى 12مجلدا تكميليا حول “دراسات ووثائق” هذه عناوينها: “سكان مصر وفك شفرة اللغات المَرْوية” (136ص)، “تجارة العبيد من ق16 إلى ق19” (341ص)، “العلاقات التاريخية عبر المحيط الهندي” (203ص)، “التاريخ الوصفي لجنوب أفريقيا” (114ص)، “نزع الاستعمار في أفريقيا: الجنوب الأفريقي وشرق أفريقيا” (180ص)، “أسماء الأعراق والأماكن” (208ص)، “العلاقات التاريخية والسوسيوثقافية بين أفريقيا والعالم العربي من 1935 إلى الآن” (222ص)، “منهجية تاريخ أفريقيا المعاصرة” (226ص)، “سيرورة التربية والتاريخ الوصفي لأفريقيا”(157ص)، “أفريقيا والحرب العالمية الثانية” (165ص)، “ليبيا القديمة” (281ص)، “دور المنظمات الطلابية في في التطور السياسي والاجتماعي في أفريقيا” (223ص).
من أعماله الفذّة كذلك، أنه قاد رحمه الله في يونسكو برنامجا بديلا لإنتاج المعرفة والمعلومات مبتعدا عن عن الرؤية الأوروبية المركزية، كما أطلق نداء في خطاب له سنة 1978 لإعادة التراث الإفريقي الضخم الذي صادره المستعمرون الأوروبيون لأصحابه الذين أنتجوه. كما عرف بمبادرته الهامة سنة 1980 حول المطالبات الدولية لإقرار “نظام عالمي جديد للإعلام والمعلومات” التي تضمنها ما عرف بتقرير ماك برايد الشهير.
وتجب الإشارة هنا إلى جانب هام في شخصيته وهي اعتزازه بهويته الإسلامية وبالإرث الحضاري الذي أنتجه الأفارقة المسلمون عبر القرون، وهذا ما تبدّى واضحا، بحكم الضرورة، في المساحات الكبيرة في الموسوعة التي خصصت للحضارة الإسلامية الأفريقية، في الدعوة والعمران والإنتاج العلمي والثقافي وفي التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعسكري والجهاد ضد الاستعمار الأوروبي، وعندما نقول أفريقيا المسلمة فهذا يعني أنها تمتد حرفيا على ثلاثة أرباع القارة بالمعيار الجغرافي والسكاني. كانت له صداقات متينة وتعاون مع كبار المفكرين والباحثين المسلمين الأفارقة ومن أبرزهم الفيلسوفان شيخ آنتا ديوب (السينغال) الذي أطلق اسمه على جامعة داكار، وأحمدو آمباتي با (مالي)، كما كانت له صداقة متينة مع العلّامة الفرنسي الخبير بالعالم الإسلامي فانسان مونتاي رحمه الله (1913-2005) الذي أدار لسنوات طويلة “المعهد الأساسي للأفريقيا السوداء” (IFAN) وصاحب الكتاب الشهير “الإسلام الأسود”، أي الإسلام الأفريقي، وعرف رحمه الله بمناهضته القوية لإسرائيل والصهيونية وناله منهما أذى كثير.
“خط النار”
كان أحمدو مختار مبو واعيا تماما باستراتيجيات الإمبريالية الموجهة للحزام الإسلامي العظيم الممتد من السينغال على الواجهة الأطلسية إلى السودان على البحر الأحمر، فقد ذكر لي صديقي عبد اللطيف الحجّامي رحمه الله، وكان أستاذا مبرّزا في المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية في الرباط وخبيرا دوليا مرموقا، عندما أخبرته عن الأحداث الفظيعة التي شهدتها موريتانيا والسينغال من مذابح وفظاعات حدثت للسينغاليين والموريتانيين المقيمين في البلدين، وكان هذا سنة 1990، فقال لي معقّبا أنه زار في ذلك الوقت أحمد مختار مبو في مكتبه في يونسكو في باريس وكانت تربطهما أواصر الصداقة، ودار الحديث بينهما حول الأوضاع آنذاك في منطقة الحزام الإسلامي العظيم، أي ما بعرف بمنطقة الساحل، فأخرج أحمدو مختار مبو من درج مكتبه ملفا وناوله إياه. كان عبارة عن “تقرير” كتبه خبراء فرنسيون حول المستقبل المنظور في منطقة بلدان الساحل “توقّعوا” فيه أن تشهد المنطقة سلسلة من الصراعات الداخلية لأسباب “دينة وعرقية وقبلية”، في شكل توجّهات وحركات انفصالية في كل بلدان المنطقة “يمكن” أن تفضي إلى انقسامات وظهور “دول” جديدة. وما حدث في السنغال وموريتانيا في ذلك الوقت من فظائع كان شيئا جديدا تماما لم يحدث مثله قط في تاريخ العلاقات بين البلدين اللذين عاشا في وئام وتكامل سكاني وثقافي إسلامي عميق طوال قرون، وسينتبه بعض المراقبين سريعا بعد تلك الأحداث أن وزيري الداخلية في البلدين آنذاك كانا “مسيحيين”.. وما حدث قبل ذلك وبعدها، هو زيادة في “الأنشطة” العسكرية والسياسية للحركات الانفصالية في جميع بلدان منطقة الساحل أي في موريتانيا والسنغال ومالي والنيجر وتشاد وصولا إلى السودان، تماما كما “توقع” الخبراء الفرنسيون في التقرير المشار إليه، وستزيد الأوضاع تدهورا بعد ظهور الجماعات “الجهادية” في المنطقة ودخولها الدموي في حلبات الفتن الداخلية. مع إشارة سريعة إلى بُعد استراتيجي آخر لهذه الفتن، وهو انعكاسات التوجهات الانفصالية في بلدان الساحل على البلدان المغاربية وتحديدا على ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا، وساذج من يظن أن هذه البلدان بمنأى عن مضاعفات “خط النار” عليها، فالعقل الاستراتيجي الإمبريالي لم يتوقف منذ ما قبل استقلال البلدان الأفريقية وإلى الآن عن استهداف جميع تلك البلدان بالإضعاف والإنهاك وصولا إلى التمزيق وهذا الملف هو واحد من عدة ملفات أساسية تناولتها بالوصف والتحليل في كتاب سيصدر قريبا إن شاء الله حول “الإسلام والإمبريالية في أفريقيا المسلمة”.
رحم الله أحمد مختار مبو وجزاه عن الأمة كل خير وبعثه مقاما محمودا.