يذكر المفكر والفقيه القانوني محمد سليم العوا: “جاء طوفان الأقصى ليضع حدا للأوهام المتعلقة بعملية السلام، وبالعلاقات الطبيعية بين الصهيوني المحتل وبين العرب جميعا، مسلميهم ومسيحييهم… رأى العرب كما رأى العالم أن قهر العدو ممكن وأن مواجهته بغير جيوش نظامية تكبده خسائر فادحة لا قبل له باحتمالها، ومجرد وجود هذه الحقائق في أذهان الشباب العرب يفتح الأبواب لمرحلة ثقافية وسياسية، بل ووجودية جديدة… “. وإذا ما أردنا التحقق من مدى واقعية ما تفضل به المفكر من خلال تقييم نتائج وضع الحرب الدائرة بغزة بين المقاومة الفلسطينية والجيش المحتل يتبادر إلى أذهاننا تساؤلات جدّ هامة تتمركز حول: مدى فعالية استراتيجية المقاومة في تحرير الأرض بالتنسيق مع دول محور المقاومة؟ وما هي مظاهر انهزام الجيش الإسرائيلي؟ وهل مشروع التطبيع الأمريكي ما زال ينتج مفعوله بالبيئة المحيطة؟ وما هي مظاهر التحولات التي تفرزها حرب غزة على مستوى الدول الإسلامية والعربية من جهة وعلى العالم بأسره؟
بعد أحد عشر شهرا من الحرب الضروس بين المقاومة والجيش الصهيوني التي خلفت 40 786 شهيد، ثلثهم نساء وأطفال و94 224 مصاب و10 000 مفقود، بتاريخ 02/09/2024، وأزيد من نصف سكان غزة يواجهون مجاعة كارثية، يتضح أن الصهاينة بالرغم من الدعم الأمريكي المقدم لهم بما قيمته 8.5 مليار دولار منذ بدء الحرب إلى غاية شهر جوان 2024 عجزوا عن تحقيق الأهداف المعلنة، وهي القضاء على المقاومة وتحرير الأسرى، وتهجير سكان غزة، وتغيير الحكم السائد، واستعادة قوة الردع بالمنطقة، ولم يفلحوا إلا في تدمير 90% من المباني، وإبادة المدنيين وتجويع الشعب.
ولعل التقرير الأمريكي بتاريخ 05/08/2024 يؤكد هذه الحقائق بشهادته على أن نصف كتائب القسام أعادت بناء قدراتها رغم مرور عشرة أشهر من الحرب، استخدام حماس الموارد المتضائلة على الأرض بشكل فعال خلال الحرب، مبادرة الحركة بعملية تجنيد الآلاف من المقاتلين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وأن حديث نتنياهو على اقترابه من تحقيق النصر كلام تناقضه وقائع الأرض، وهذا ما جعل قادة إسرائيل يغطون على فشلهم بإجراء سلسلة من الاغتيالات الجبانة، اعتقاد غبي منهم أن ذلك يثني عزيمة المقاومة ويربكها، بل خلال أيام معدودات تم انتخاب يحي السنوار صائد العملاء ومهندس عملية طوفان الأقصى، فالرجل ومن معه أدركوا أن النصر لن يتحقق إلا بتوحيد كل الفصائل الفلسطينية، وتقوية روابط الصلة بين أهل غزة والضفة الغربية.
وعلى الطرف المقابل، نلحظ أن الكيان تكبد جراء هذه الحرب خسائر فادحة بشرية منذ السابع أكتوبر 2023، قدرت بأزيد من 1 000 قتيل و10 000 جريح، وهجرة أكثر من نصف مليون مستوطن إلى الخارج، تعميق الفوارق العرقية، تصدع الداخل الإسرائيلي، واشتداد معارضة خيارات نتنياهو الذي يماطل في إبرام صفقة تبادل الأسرى لاقتراف مزيد من الإجرام وللإفلات من المساءلة الجنائية الدولية.
أما من الناحية المادية، فتجاوزت كلفة الحرب 67.3 مليار دولار، ناهيك عن مغادرة 70% من أصحاب الاستثمارات في إسرائيل، بلغ حجم عجز الموازنة في جويلية 2024 8.1% من الناتج المحلي الإجمالي، استقبال مراكز إعادة التأهيل أكثر من 64000 مجند، عشرة آلاف جندي معاق، إجلاء ما يقارب 250 ألف إسرائيلي من منازلهم من الجنوب والشمال، ما يشكل ضغطا قويا على رئيس الحكومة الإسرائيلية لإذعان للصفقة. وهذه المقررة الأممية لحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية فرنشيسكا ألبانيزي تصدح بالحق صارخة: (إنه لا يمكن لدولة متحضرة أن تقبل الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين، وأن إسرائيل تَسخَر من القانون والنظام الدوليين، وتستخدم الأموال الأوروبية لذبح الفلسطينيين، وأن إسرائيل قوة محتلة لقطاع غزة والضفة الغربية، ويجب أن تتوقف الحرب الآن..) فالكل أمسى يدرك أن إسرائيل تدفع أمريكا لتحارب بالوكالة عنها إيران لتدمر قدراتها الحربية، كما فعلت مع سوريا والعراق، لتجرّ بذلك كل المنطقة جرا إلى حرب إقليمية لا أحد يُقَدّر عواقبها.
إن عملية طوفان الأقصى كسرت كبرياء الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر وأبانت عن عجزه الاستخباراتي والعسكري والتكتيكي والإعلامي، كما كانت بمثابة إعلان جريء عن وأد اتفاقيات أبراهام ومشروع القرن الأمريكي الخاص بالتطبيع الذي يرمي إلى الاعتراف بالقدس موحدة عاصمة للكيان، إسقاط حق العودة للشعب الفلسطيني، وضع المقدسات تحت سيادة الكيان، منح الكيان حقوقا مخالفة للقرارات الدولية، وتجريم المقاومة، ودعوة القوى العالمية لمحاربتها، والمخزي في ذلك تصدر بعض الدول العربية سامحهم الله مهمة الضغط على الكثير من الدول لاسيما الهشة والضعيفة منها للهرولة للتطبيع مقابل منافع ومزايا ورشاوى، ما نجم عنه شق الصف الإسلامي العربي ونشر الضغينة بين الأشقاء وإثارة حروب مفتعلة بليبيا وسوريا والسودان، واليمن… إلخ، لإجهاض أي دعم للقضية الفلسطينية إلى أن جاء الطوفان الأقصى ليفضح هذه المهازل ويعيد إسرائيل إلى المربع الأول.
إن المقاومة الفلسطينية بقيادتها الملهمة تزداد حبا وشعبية لدى الشعوب الإسلامية والعربية لما لمسته فيها من الاعتزاز بالذات المسلمة، والنخوة والتعلق بالهوية الإسلامية، والطموح لاستعادة أمجاد الأمة الإسلامية المتحضرة الرائدة، وقد تجلى ذلك في تلك الرسائل التي يبعث بها أبو عبيدة من سموّ القيم ورسوخ العقيدة وعلوّ الهمة. وأمام هذه الأوضاع الحرجة التي تتواجد عليها الدول الإسلامية من ضعف وتشرذم، فقد بات أمرا حتميا أن تدرك الأنظمة العربية قاطبة أن زرع إسرائيل في خاصرة المنطقة العربية فلسطين منذ وعد بلفور كما يشير د. عبد الوهاب المسيري في موسوعته (اليهود واليهودية والصهيونية) كان المقصود منه تخلص أوروبا من اليهود وتكليفهم بوظيفة استيطانية للدفاع عن مصالح الغرب مقابل تأمينهم ومساعدتهم على تأسيس دولتهم، ولما تمكن اليهود من احتكار الإعلام والبنوك والسيطرة على التسلح والتحكم في مفاصل الدولة الأمريكية تمكنوا من جعل مشروعهم جزءا من المشروع الغربي، وقد تجلى ذلك خلال خطاب نتنياهو أمام الكونغرس ممتهنا الكذب وتزييف الحقائق، كما يشير أحد الاستراتيجيين أن إسرائيل تمثل مشروعا احتلاليا استيطانيا، وعندما تتمكن من القضاء على الدول الممانعة، ستتفرغ في ما بعد إلى الإطاحة حتى بالأنظمة التي كانت تتخابر معها، ما يستوجب على كافة الدول الإسلامية والعربية العمل على تعزيز الديمقراطية وبناء اقتصادات مستقلة، وإقامة التكتلات والأحلاف، وصولا إلى امتلاك القرار الاقتصادي والسياسي، ما سيساعدها على تجاوز الاختراق الاستراتيجي الذهني والحرب النفسية، والإيمان بقدراتها لمواجهة أي قوة عالمية وفقا لما يقول به بول لينبارجر. كما يذكر المفكر بنجامين فرنكلين أن الشعوب التي تضحي بالحرية من أجل الأمن لا تستحق أيّا منهما.
إن حرب غزة كانت لها أبعاد بالغة الأهمية كذلك على المستوى العالمي، حيث يشير بعض الخبراء إلى أن روسيا استفادت من هذه الحرب، وذلك بتشتيت تركيز دول الغرب التي منحت في البداية كل الدعم العسكري واللوجستي للجانب الأكراني، ما جعل الدبّ الروسي يتصدى لتمدد الناتو في فضائه الاستراتيجي، وبمجرد انطلاق حرب غزة تحول هذا الدعم للكيان المحتل، ما مكن روسيا من فرصة استعادة علاقاتها مع دول الجنوب الناقم على العالم الغربي، والاستثمار في موقفه في محاولة تمرير القرار الأممي لوقف إطلاق النار الذي قوبل بالرفض من الدول الغربية، والابتعاد عن إسرائيل لكسب دول الشرق الأوسط كبديل عن القوى الغربية المعادية.
واستفادت أيضا الصين من طول أمد الحرب وتورط أمريكا في انحيازها الكلي للكيان ما جعلها تنشغل وتؤجل حربها ضد الصين حول قضية تايوان لأكثر من سنة كاملة، وبذلك حدث تفادي حرب بين قوتين نوويتين مفتوحة على أكثر من سيناريو، قد تكون حرب استنزاف لأحد الطرفين أو الهلاك لكليهما في حالات التهور، كما أن إمعان الاحتلال المدعوم أمريكيا في إبادته ضد الشعب الفلسطيني أفسح المجال للصين لتسجل نقاطا دبلوماسية لتوطيد علاقاتها مع دول الشرق الأوسط واستعادة تواجدها بالمنطقة، وفي حال إجهاض نتنياهو للصفقة، سيدفع المنطقة إلى حرب إقليمية وخلط الحسابات الجيوسياسية بانخراط إيران في الحرب، ما يضطر الصين لمساندة حلفائها في الشرق وزعامة القوى المناهضة للأمبريالية الأمريكية والعدوان الإسرائيلي، وقد تفضي المواجهة بين العملاقين لحرب عالمية ثالثة.
كما قضت حرب غزة من جانب آخر على السردية والمظلومية التي طالما تسترت من ورائها إسرائيل لمخادعة الجميع، حيث أصدرت محكمة العدل الدولية حكمين الأول بمنع الإبادة الجماعية والثاني ضمان مساعدة إنسانية عاجلة، في انتظار استصدار أمر بالقبض على نتنياهو كمجرم حرب، فضلا عن مناصرة الشعوب الغربية القضية الفلسطينية، فضح سياسات الحكومات الغربية الشريكة مع إسرائيل. إن ظهور أبي عبيدة بخطاباته القصيرة والمباشرة التي كانت دوما معبرة عن الحقيقة جعل الشعوب الغربية بما فيها الشعب الإسرائيلي تثق في خطاباته أكثر مما تثق في ما تعرضه قنواتهم الإعلامية المضللة، بل إن أبا عبيدة ومن معه من قادة حماس أبرزوا بقيمهم القرآنية الفرق الشاسع بين أخلاق المقاومة التي تناضل منذ سبعين عاما من أجل استرجاع الأرض المغصوبة وجيش الاحتلال الذي يسفك الدماء بهدف الاستيلاء على المزيد من أراضي الغير، وأناروا الرأي العام الغربي بأن حكوماتهم على مدى قرنين من الزمان استعبدت الشعوب الإفريقية وابتزت ثرواتهم، وأبادت الهنود الحمر، واستعمرت المغرب والمشرق العربي لفترة طويلة واستغلت كل مقدراتهم وبنت بذلك كل العمران وطورت اقتصاداتها على حساب تجويع تلك الشعوب وإبقائهم في تشرذم وفقر مدقع، مما حذا بالشباب الأمريكي وفي مقدمتهم طلبة الجامعات للثورة على سياسة أمريكا لمطالبتها بالكف عن الدعم، وكذا رفع محامين بريطانيين دعوى أمام المحكمة العليا في لندن لمنع الحكومة البريطانية من تصدير الأسلحة لإسرائيل.
من خلال ما تقدم، يمكننا أن نخلص إلى أن المقاومة الفلسطينية بغزة ملهمة في ذاتها متميزة عن غيرها من الثورات، تمر بأحسن حالاتها طالما أنها تنتهج أساليب الشورى والديمقراطية في انتقاء قاداتها ورسم استراتجيتها الحربية، مع وعيها المطلق بحتمية توحيد كل الفصائل، والاعتماد على الكفاءات المحلية لتصنيع الأسلحة والذخائر، والتنسيق التام مع دول المحور في كل المبادرات، مع توظيف واستغلال التناقضات التي يعيشها الكيان الصهيوني من معارضة الداخل، والتدهور الاقتصادي، فضلا عن كون المقاومة استطاعت أن تفضح خطورة الكيان وحتمية إزالته لتجريف الشر المطلق عن العالم، وتتصدى للآلة الإعلامية الغربية المضللة، ما أكسبها مناصرة جلّ شعوب العالم، كما كانت لها إفرازات هامة أعادت رسم الخارطة الجيوسياسية وتغيير موازين القوى تمهيدا لبروز عالم متعدد الأقطاب، والفضل في ذلك يعود إلى ثبات الشعب الغزي البطل أمام كل المجازر البشعة لأنه شعب آمن بالحرية والتضحية بدلا من الاستسلام إلى الكيان الذي سيرغمه على العيش في العبودية والهوان إذا ما استسلم، مستوعبا أن ثمن الاستبداد أفدح من ثمن الحرية. وخير ما أختم به كلام من ذهب للعلامة البشير الإبراهيمي: “إن فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه وسلّم عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منّا ونحن عصبة إنّا إذن لخاسرون…”