عندما نتابع ما يحدث وكيف تصوّر وتسوّق الأخبار عالميا من طرف كبريات وسائل الإعلام في إعدام شعب فلسطين وغزة، من أمريكا إلى بريطانيا إلى فرنسا إلى ألمانيا، مهد الصحافة العالمية وقلبها المؤسّس النابض، نفهم أن مفهوم الحرية كيفما كان، سواء في مجال حرية الشعوب والانعتاق والاستقلال أو في حرية الرأي والتعبير والاختيار، كلها الآن محل تساؤل، إن لم يكن محل نفي ونعي، خاصة لدى فئة الشباب الذين حررهم جيل تكنولوجيا الرقمنة والموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي: جيل الأنترنت والمجتمع الافتراضي السحابي.
لقد بات واضحا لنا جميعا، لاسيما لدى نسبة كبيرة من شباب الغرب اليوم، المسمى “الجيل الخامس” الذي فضّل التحرر والانعتاق باستخدام منصات التواصل الاجتماعي الأقل سوءا ورقابة واستقلالية، على قلتها ومحدودية استقلاليتها أيضا مثل “التيك توك” و”التلغرام”، من خرق الحظر وكاتم الصوت المطبق الذي فرض على منظومة الاتصال العالمية عقب الحرب العالمية الثانية والتي سيطرت عليها القوى النافذة والمال الصهيوني بشكل عام، بات واضحا لدى الغالبية العظمى من سكان العالم ولاسيما الشباب منهم دون الثلاثين، أن المفاهيم العامة التي تعلّموها صغارا وفي الجامعات وفي المؤسسات التعليمية والأسرة والتكوين والمؤسسات الثقافية والعلمية، حول حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس والشعوب، والحق في الحريات كلها من حق الملكية المقدس في الرأسمالية الليبرالية إلى الحق في التعبير والرأي، كلها باتت واضحة أنه قد جرى اختراقها لفائدة نخب سياسية ومالية وسلطوية ضاغطة مالكة مسيطرة مستفيدة مقرّرة محتكرة لكل هذه الحريات وهذه المثل العليا التي تغنّت بها البرجوازية العالمية منذ الثورة الفرنسية في 1789م.
ما يحدث في غزة والضفة اليوم وفي أماكن أخرى من العالم سواء في العالم العربي والإسلامي أو في إفريقيا أو في أمريكا اللاتينية، ما هو إلا تعبير عن الوجه الآخر للإمبريالية الغربية العالمية، التي قال عنها كارل ماركس ذات يوم في 1840 إنها (الإمبريالية) “…أعلى مراحل الرأسمالية”.
مع ذلك، يطالب الغرب الرأسمالي العالمي الذي يبدو على قلب واحد، لكنهم “شتى”، فشعوبهم أو على الأقل نسبة كبيرة منها، ترفض هذه المعايير التي تتبنّاها نخبهم السياسية والمالية والسلطوية خدمة لمصالح أنانية نخبوية ضيقة، لكنها لا تجد بعد آذانا صاغية ولا عيونا رائية ولا أنوفا شامخة ولا أياد لامسة ولا ألسنة ذائقة، إلا عبر الاحتجاج المتصاعد في الشوارع والأزقة، وصولا إلى حرم الجامعات اليوم، وغدا عبر موجات وعدوى قد تجتاح قلب الغرب النابض الذي علم وتعلّم منه هؤلاء الشباب القيم التي بنى عليها الغرب نفسه فلسفته السياسية من قرن الأنوار.
اليوم، هذه النخب في الغرب الماسكة بالسلطة التي تسيّر العالم الواسع، تريد أن تبقى هي المقياس والمعيار لقياس حرية الصحافة عند الآخرين، وهي من تصدّر صكوك الغفران وهي من تحدّد الصحيح من الخطأ وهي من تعطي التقييم السلوكي الديني والقيمي والأخلاقي للدول والحكومات والشعوب وهي من تأمر عمليا بـ”الفحشاء” وتنهى عن “العدل والإحسان”، من حيث ترى نفسها أنها تقوم بالعكس.
الشعوب والشباب والأجيال الجديدة التي خرجت من رحم تكنولوجيا المعلومات والتي حرّرتها نسبيّا من قبضة وسطوة وسائل الإعلام الغربية الكبرى التي بقيت لعقود ومنذ تأسيسها “سلطة رابعة” على شعوبها لا يسمعون ولا يرون ولا يفكّرون إلا عبرها وعلى وقعها اليومي سواء المكتوب منها أو المرئي أو المسموع، ترفض منذ اليوم أن تبقى سجينة هذه المعايير المزدوجة وهذا الدّجل باسم الحريات والحقوق.