الأكل مع الذئب والبكاء مع الراعي / عمار يزلي/ كاتب جزائري

2 مارس, 2024 - 16:07

سياسة الكيل بعدة مكاييل، والنفاق السلبي، تتجسّد اليوم في موقف الجميع حيال إرهاب التجويع في غزة، التي ينتهجها الكيان الصهيوني في محاولة خبيثة وإجرامية ووحشية لم يسبق لها مثيل، من أجل الضغط على المقاومة عبر حاضنتها الشعبية: الكل يشهد ويشاهد ويرى ويسمع ويعلم ويفهم بأن ما يحدث هو حرب إبادة مع سبق الإصرار: سياسة معلنة منتهجة على أعلى مستويات الكيان الغاصب المجرم، الذي يعلم أن يده غير مغلولة “غلَّت أيديهم”، وأن له اليد الطولى في فعل أي شيء يحقق له غايته في إفراغ فلسطين من أهلها في الضفة والقطاع ولاحقا عرب 48.
هذه سياسة معلنة، دوّنتها حتى محكمة العدل الدولية المكبّلة أياديها بأرجلها، هي الأخرى، على استقلاليتها، باعتبارها أداة من أدوات العالم القوي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هم من وضعوا أسسها وأهدافها التي لا تنتهك مصالحهم بالأساس تحت ذريعة الاستقلالية. محكمة لا تملك آلية لتنفيذه إلا عبر مجلس أمن، يكون فيه الخصم هو الحكم، فيستعمل الأمريكي حق النقض الذي أعطاه لنفسه وشرّعه دون رأي بقية الأمم. خمسة نيابة عن 150 دولة وأكثر وقتها أعطوا لأنفسهم “حق” الفيتو، عند إنشاء هذه المؤسسات الأممية الحقوقية والإنسانية والسياسية، استعملته أمريكا في أغلب الأحيان لصالح الكيان.

اليوم، والمجاعة تفتك بشعب بأكمله، محاصر منذ 17 سنة كاملة، منهك ومحطَّم، لكنه صامد صمود البواسل، يقول بملء الفم: “نكسر ولن نعصر”، “نموت ولا نستسلم”، “نجوع ولا نرضخ”. هذا الموقف البطولي الذي لا يفهمه أي كائن عاقل في العالم المتحضّر، بدأ أخيرا شبابه دون الثلاثين من العمر يكتشفونه ويعرفون كم أن حكوماتهم وقادتهم متواطئون ومزيّفون للوقائع والحقائق ومنتهكون لحقوق إنسان طالما تغنّوا بها ومرروها على أنوف الناس في كل المحافل والمؤسسات الدولية والحقوقية. هذه القوة، وبتواطؤ وبمشاركة مباشرة، بدأ بجسر جوي وبحري ودعم مالي للكيان لدكّ شعب غزة الأعزل، تماما كما فعلت بشعبي العراق وأفغانستان، بل وأكثر من ذلك، تماما كما فعلت بهيروشيما وناغازاكي، إنهم يأكلون مع الذئب، إن لم يكونوا هم الذئاب، ويبكون مع الراعي، عن الإنسانية: إنسانية الإنسان الغربي الأبيض، إنسانيتهم هم وحدهم لا غير، الذين يستحقّون هذه الحقوق، وما عداهم، لا تطبّق عليهم حقوق الإنسان، ولا حتى حقوق الحيوان، فقد رأينا ذلك “الثلاثة أرباع مجنون” كما سمَّاه حسن نصر الله، الذي هو وزير حرب الكيان، يقول قبل العدوان الهمجي على غزة قبل أكثر من 5 أشهر، أنه سيقطع الماء والكهرباء والتموين على سكان غزة لأنهم حيوانات بشرية. هذا التصنيف يوجد في كل الأدمغة العنصرية التي قامت على الاضطهاد العنصري والاسترقاق والعبودية، إنما النفاق يخفي المنطوق، لكن في بعض الأوقات، كما يقول الشاعر: “أخفيته فأذاعه الإخفاء”، تكشف العورات أمام الملأ والعالم. الإبادة عرّت العالم وقادته أمام شعوبهم وأمام الإنسانية وما تبقى فيها من روح عصر الأنوار وفلسفته، التي كثيرا ما صدعوا بها رؤوسنا ورؤوس التلاميذ حتى في البكالوريا.

اليوم، تدرس الولايات المتحدة، إمكانية “قصف” غزة جوا بمساعدات غذائية، بالموازاة مع قصفها بقنابل تزن طنّا على رؤوس العباد من أطفال وشيوخ ونساء. هذا بالضبط ما فعلته في أفغانستان: عندما كانت ترمي بالخبز على شعب يتضوّر جوعا بسبب حربها عليه، ترمي عليهم أكبر القنابل التي لم يسبق لها أن جرّبتها إلا هناك.

أمام كل هذا، المقاومة صامدة، ولن تثنيها أيّ مناورة عن النصر الذي لن يأتي إلا بالتّضحيات.