تقول دراسات إسرائيلية استشرافية، بأن تعافي الاقتصاد الصهيوني، بعد أكثر من أربعة أشهر من الحرب، يتطلّب خمس سنوات على الأقل، ولكن ما فعله “طوفان الأقصى” في نفوس المقيمين، في ما يسمونه “أرض الميعاد” أرض فلسطين، قد يتطلب عقودا من الزمن، إن بقي للكيان زمنٌ أصلا.
خلال نكسة 1967 عندما خسرت الجيوش العربية حرب ستة الأيام، عمّ الحزن كل البلاد العربية، ودخل عشرات الملايين من ناطقي حرف الضاد في حالة صدمة نفسية بقيت آثارها الجارحة عدة عقود، وبالرغم من مرور أكثر من نصف قرن عن تلك الحرب الأليمة، مازلنا نصرّ على أنها مجرّد “نكسة”.
وكانن الزعيم القومي الراحل جمال عبد الناصر يطالب المطربين والممثلين والأدباء، لأجل العودة إلى الطرب والكتابات الباعثة على التفاؤل، ومع ذلك عجز عن تحريك الإحباط والوجع النفسي، قيد أنملة، لأن الضربة كانت فعلا موجعة.
ولأن التاريخ يعيد نفسه، أحيانا، بتغيير الألوان والهويات والمواقع، فإن ما حدث خلال غزوة “طوفان الأقصى”، وعجز الصهاينة المدعومين بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، عن تحقيق هدف واحد من الأهداف المعلنة أمام العالم بأسره والمكرَّرة مئات المرات من الحكومة النتنة الصهيونية، زاد من انتشار الجائحة النفسية، وانتقالها من أفراد الجيش الصهيوني الذي عُرف بأنه يُقهر ويتقهقر، إلى عامة الإسرائيليين الذين آمنوا ذات كذبة، بأنهم آمنون في أرض “ميعادهم”، فتحوّل قسم التأهيل النفسي، الذي غرسه الجيش الصهيوني في ألويته، إلى عامة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، لمعالجة الصدمات النفسية والميول الانتحارية وكوابيس الصَّحو، التي بلغت حدّ إطلاق النار على الأصدقاء والخلان، وأصبحت المادة الصيدلانية الأكثر رواجا في الأرض المحتلة، هي الحقناتُ المخدرة التي تمكِّنهم من النوم أو نسيان واقعهم الأليم، وواقع المقاومة المنير، وعلموا بأن أيّ معركة يدخلون نيرانها، هي قضية وجودية تضعهم بين النار والنار، وبأن ما زرعوه من أحقاد ووحشية في غزة، سيُنبت مزيدا من الطوفان، طال الأمد أم قصُر.
ولأول مرة في تاريخ هذا الكيان المتلاشي، صار أهله يطرحون أسئلة كانت مغيّبة عنهم، عن عمر هذا التحالف الوهمي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعن مستقبلهم بعد أن فجّروا كل بالونات السلام التي كانوا يزعمون بلوغها مع جيرانهم، وعن فائدة التطبيع مع بعض الأمراء والملوك بينما تكنّ لهم الشعوب كُرها أخطر من حكاية رميهم في البحر التي كانت تُردَّد على مسامعهم في زمن الحروب الكلاسيكية، خاصة أن حليفتهم أمريكا زادتهم من الأعداء أعداءً في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، إذ حاولت الدفاع عنهم، فورّطتهم في مزيد من الطوفان، الذي حتى وإن لم يجرفهم الآن، فسيجرفهم لاحقا.
قديما قال الصهيوني بن غريون: “دعونا نعمل ما نريد، فإن العرب لا يقرؤون وإذا قرؤوا لا يفهمون”، وها قد حان الوقت الذي فعلت فيه المقاومة ما أرادت، ولن يقرأ ولن يفهم، من جرفته جائحة “الجنون”.
الشروق الجزائرية
ا