يا تلاميذ غزة علِّمونا! / التهامي مجوري

1 ديسمبر, 2023 - 23:29
التهامي مجوري كاتب في الشروق الجزائرية

لقد آن الأوان لأن يؤرخ العالم بالأحداث التي تصنعها أيدي المستضعفين في العالم، وعلى رأسهم أبناء فلسطين الشهيدة، مثلما تفرض الأحداث الكبرى على الإنسانية نفسها، فتذكر كحدود فاصلة بين ما بعدها وما قبلها، مثلما كان يذكر الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، والحادي عشر من سبتمبر، بوصفها تواريخ لأحداث ليعبّر بها عن تحول في التاريخ ومنعرج في الحياة، فينظر إلى ما بعدها من تطورات، وليس إلى ما قبلها.
ابتداء من اليوم السابع من أكتوبر 2023 شرع التاريخ في التحول، بفضل ما قامت به كتائب المقاومة الفلسطينية، من غزو موفق لقوات العدو الصهيوني في موطن قواته القاهرة… لقد سجلت المقاومة والشعب الفلسطيني عموما بعد ذلك، بصبره وثباته ومعاناته لما يتعرض له من حرب إبادة وتدمير ممنهج بدعم غربي متآمر وصمت عربي متخابر.
إن المعركة لم تنته بعد، وسوف تطول إلى ما شاء الله لها أن تطول؛ لأن الفعل التاريخي لا يقاس بالأيام والليالي وإنما يقاس بالعقود والقرون، ولكن مهما كانت النتائج الآنية التي ستختم بها هذه المعركة التي قادها بواسل المقاومة الفلسطينية، وحضنها الدافئ الشعب الفلسطيني، وأهلنا في غزة خاصة، فإن الآفاق مفتوحة على تحول كبير في المنطقة وفي العالم كله، وعلى انفتاح كبير على الحقائق الكونية، وعلى مناهج التعامل معها، ومعرفة جديدة لقيم الإنسان وحقوقه وواجباته قبل ذلك، التي صرفنا عنها الغرب الذي تولى هو تعريفنا بالواجبات التي علينا، وحقوقنا كيف نحصل عليها ووضع لنا مؤسسات تعلِّمنا كل ذلك.

 لقد علَّم أطفالُ غزّة العالمَ حقيقة كيف ينتفض المستضعف ويؤثر؟ وأن قدَره في الحياة هو المقاومة وليس الاستسلام، وأن الضعف والقوة تكتسب من الميدان ولا تولد مع الناس، وعلّمونا أن الطريق من هنا، من المقاومة ومن الضغط الدائم والمستمر على العدو، ولو بالوسائل المنبطحة؛ لأن المقاومة روحٌ وليست سلاحًا، والروح هي التي تصنع السلاح وليس السلاح هو الذي يصنع الروح.

لقد انتبه الزعيم الهندي المهاتما غاندي إلى هذه الخدعة المفضوحة لدى أهل البصائر، عندما دعا إلى مؤتمر لحقوق الإنسان فردَّ على الدعوة بقوله “عندما تقرروا تنظيم مؤتمر لواجبات الإنسان سأكون من أول الملبِّين للدعوة؛ لأن الحقوق هي الثمار الطبيعية للقيام بالواجب وليس المطالبة بالحقوق”.
لقد فرض الغرب على العالم في أكثر من نصف قرن، قيمه الاستهلاكية، لأنه يرى نفسه هو المنتِج وينبغي أن لا يظهر منتجٌ آخر، وشغلنا عن واجباتنا التي تمثل الإطّراد الثوري لحركات التحرر العاملة على تصفية الاستعمار، ولا تقف عند الاستقلال العسكري والسياسي فحسب.
ورغم أن هذا الاستعمار قد أُخرج من الباب بفضل بطولات حركات التحرر الباسلة، فقد تسلل من النافذة، ليملي علينا كيفية معالجة أمورنا، وكيف نحللها ونتعامل معها؟ ومن نقبل؟ ومن نرفض؟ وماذا نرفض وبأيِّ حجة؟ وعلى ماذا نحتج؟ وكيف نحتج؟ ومتى نثور؟… وظل ذلك هو القانون ساري المفعول إلى اليوم 2023، وذلك ليس بمجرد الإملاءات فحسب، وإنما بإنشاء مؤسسات دولية تتبنى طروحاته وتمليها علينا وعلى غيرنا من الشعوب المستضعَفة، باسم قرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وجميع التحركات الدولية المشبوهة، التي تفرضها القوة المتمثلة في دول الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا، وربيبتهما دولة الكيان الصهيوني.
إن طوفان الأقصى الذي أطلقته حركة المقاومة الفلسطينية، هو الامتدادُ الطبيعي للحركة الجهادية الاستقلالية التي حررت البلاد من الاستعمار، ومن ثم فهي الوريث الشرعي للخط الاستقلالي من هيمنة الغرب الذي أجبِر على الخروج من بلاد العرب والمسلمين وأراضي الشعوب المستضعفة، وطريقها الآن هو استكمال فكرة تقرير مصير الشعوب بإجلاء الصهاينة من أرض فلسطين، واستبعاد هذا الجسم الغريب عن أرض الشرق وأهلها ومخزونها الثقافي والتاريخي.
إن هذه الثمار التي تقطفها المقاومة اليوم، هي البذور الطيبة التي بذرتها الإنتفاضة الأولى في 7 ديسمبر من سنة 1987، التي شقت طريقها إلى طريق الضربات الموجَّهة التي آلمت العدو، والتي كانت تعمل على تثبيتها كقيم جهادية ثابتة مُقاوِمة، أنشئت قبل ذلك بسنوات مثل حركة الجهاد الإسلامي، وحركة المقاومة الإسلامية –حماس- ومشتقات الحركة الوطنية الفلسطينية ككتائب شهداء الأقصى وغيرها… ولكن عصب هذا التوجه الجهادي المقاوم هو في “الجهاد وحماس” بالأساس، اللتين بقيتا خارج اللعبة السياسية التي فرضتها منظمة التحرير، ورغم فظاعة المعركة غير المتكافئة، حركة شعبية: أطفال وحجارة وسلاح أبيض، في مقابل أسلحة نارية ودبابات، كانت حصيلتها “استشهاد قرابة 1162 فلسطينيا، بينهم نحو 241 طفلا، وإصابة نحو 90 ألف جريح، واعتقال 60 ألف فلسطيني من الضفة والقطاع وفلسطيني 1948، مع تدمير ونسف 1228 منزلا، واقتلاع 140 ألف شجرة من المزارع الفلسطينية”، فقد خطت هذه الانتفاضة خطا جديدا، كيف يمكن للضعيف والفقير أن ينتصر بإبداع وصناعة وسائل نضاله التي لا يضطر لجلبها من أي جهة كانت؟
وقد خلَّد الشاعر السوري نزار قباني ذلك الحدث والتحول الهام في قصيدته الرائعة [ثلاثية “أطفال الحجارة”]، التي أرَّخ فيها للجديد الذي جاءت به المقاومة الفلسطينية، قبل أوسلو ومخازيه الانبطاحية، وقبل معاول التطبيع التي قضت على آخر نفس سياسي ناجح في الأنظمة، فعمَّ اليأس وكانت المقاومة بطُرقها كلها هي المعبّر عن اليأس التام من المساعي السياسية التفاوضية، واليأس التام من المؤسسات الدولية ومن عدالتها المائلة.
وقد علَّموا العالم حقيقة كيف ينتفض المستضعف ويؤثر؟ وأن قدَره في الحياة هو المقاومة وليس الاستسلام، وأن الضعف والقوة تكتسب من الميدان ولا تولد مع الناس، وعلّمونا أن الطريق من هنا، من المقاومة ومن الضغط الدائم والمستمر على العدو، ولو بالوسائل المنبطحة؛ لأن المقاومة روحٌ وليست سلاحًا، والروح هي التي تصنع السلاح وليس السلاح هو الذي يصنع الروح.
وعلّمونا أن طريق المفاوضات في القضايا العادلة محدود الأفق، وأن موازين القوة لا تصنع القوة وحدها، وإنما تصنعها الهمم العالية، إذ يوجد في الكون من آلات الضغط ما يفوق القوة التي تتمتع بها دول الغرب وتغدق بها على العدو الصهيوني.
ولكن الخذلان السياسي لم يعر اهتماما إلى هذه الرسالة البليغة، ولم يعتبر عدالة قضيته، إنما وقف عند نجاح هذا المسعى الجديد “ضغط الحجارة” واستثمر فيه استثمار التاجر الفاشل، فلم يأت بشيء، فانتهى إلى اتفاقية أوسلو المشؤومة في سبتمبر 1993، وعطَّل حركة المقاومة؛ لأن هذا الاتفاق من أساسياته إنهاء المقاومة، وغضّ الطرف عن عملية التحرير رسميا، وفرض الاعتراف بـ”دولة إسرائيل”، ومعالجة القضايا العالقة التي بين الفلسطينيين والصهاينة عن طريق التفاوض، وهو مسلسلٌ ماراطوني عبثي دام 30 سنة من دون أن يؤدّي إلى أيّ نتيجةٍ إيجابية للفلسطينيين.

٩