خلال زيارته لجنوده المحتشدين حول غزّة لرفع معنوياتهم قبل بداية عملية الغزو البرّي، خاطبهم وزيرُ دفاع العدوّ الصهيوني يوآف غالانت قائلا: “لقد تعوّدتم على رؤية غزة من خارجها.. قريبًا سترونها من الداخل”.
الزيارة هي الثانية لمسؤول صهيوني رفيع لجنوده قرب غزة، بعد رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو، ما يؤكّد أنّ قادة الاحتلال يدركون مدى انهيار معنويات جنودهم بعد تبديد شملِ ما يُعرف بـ”فرقة غزة” التي تضمّ 4800 جندي صهيوني في هجوم 7 أكتوبر الجاري، وقتلِ 1400 من جنودها على الأقل، وجرح آلاف آخرين، وأسرِ المئات أو فرارهم أمام أسود المقاومة كالجرذان المذعورة.
وانطلاقا مما سبق، يمكن التساؤل: هل صحيحٌ أنّ العدوّ جادٌّ في مسألة الغزو البرّي لغزة؟
لقد حشد الاحتلالُ 300 ألف جندي إلى حدّ الساعة لتنفيذ هذه المَهمّة ومواجهة نحو 40 ألف مقاوِم يتحصّن الآن في شبكةٍ ضخمةٍ ومعقّدة من الأنفاق استعدادا للمواجهة المباشرة مع العدوّ، وقد مهّد الاحتلالُ للاقتحام البرّي من خلال القصف الجنوني للقطاع، أملا في تهجير سكّانه وترك المقاومة لمصيرها؛ إذ يعتزم العدوّ آنذاك قصفَها بقنابل أمريكية عملاقة خارقة للتّحصينات إلى عُمق 30 مترا تحت الأرض، إضافة إلى إمكانية استعمال غازات كيميائية لإبادة المقاومين في الأنفاق، لكنّ ما يعيق هذا المخطّط هو تشبّثُ مئات الآلاف من الفلسطينيين بمساكنهم إلى حدّ الساعة رغم كّل ما لحق بها من خراب، وإذا طال أمدُ هذه الحرب وتفاقمت خسائرُ المدنيين الفلسطينيين، لاسيّما في أوساط النساء والأطفال، وتصاعد الضغطُ الإقليمي والدولي على الاحتلال لإيقاف مذابحه، فلن يكون أمامه سوى خيارٍ من اثنين: وقف الحرب، أو تنفيذ تهديده بالغزو البرّي في محاولة للقضاء على المقاومة.
الملاحَظ أنّ العدوّ لا يزال متردّدا في غزو القطاع، إدراكا منه بأنّ جنوده سيواجهون هناك أهوالًا لا قِبل لهم بها. لقد حاول الاحتلالُ من قبل التوغّل في غزّة في حربَي 2008 و2014، لكنّه واجه مقاومة ضارية فاجأت جنوده ففرّوا مذعورين بعد أن تكبّدوا خسائر كبيرة. ومنذ نهاية حرب 2014، أصبح الاحتلالُ يكتفي بالقصف الجوّي لغزّة خلال جولات قتالٍ قصيرة مع فصائلها ولا يجرؤُ على دخولها برّا.
إدراكُ العدوّ لحقيقة التفوّق البرّي لأسود المقاومة على جنوده الجبناء جعله يؤجّل اقتحام القطاع برّا أربع مرّات كاملة، والاكتفاء بالقصف الجوي طيلة أسبوعين كاملين، وقد عبّر نفتالي بينيت، رئيس الوزراء السابق للكيان، عن مدى تردّد الاحتلال في اقتحام غزّة بالقول في تغريدة له على موقع “إكس”: “صبرًا، لدينا الوقت، قوّاتُنا ليست في عجلةٍ من أمرها، لدينا تفوُّقٌ جوّيٌّ ومدفعي كبير، والعدوُّ يختبئ في الجحور والأنفاق.. قبل إدخال جنودنا وأولادنا، يجب سحقُ العدوّ بقوةٍ نارية لم يسبق لها مثيل.. دعوا هؤلاء (الإرهابيين) يذوون ويتعفّنون وهم ينتظروننا في حالةٍ من عدم اليقين”!
الاحتلالُ يعي إذن أنّ الاقتحام البرّي لغزة بجنودٍ منهاري المعنويات بعد غزوة “طوفان الأقصى”، خائري العزيمة، جبناء رعاديد، لا عقيدةَ قتاليةً لهم، سيعني سقوط آلاف القتلى والجرحى وأسْر المئات، وترسيم هزيمة 7 أكتوبر أمام صناديد المقاومة، والانسحاب بعدها مذمومين مدحورين، ومن ثمّة بداية حدوث تغيير جذريٍّ في المنطقة، ونهاية الكيان في السنوات القادمة على يد المقاومة.
لا شيء تنتظره المقاومة الفلسطينية على أحرّ من الجمر كدخول جنود الاحتلال إلى غزّة ومواجهتهم وجها لوجه، آنذاك سيلقّنونهم درسا آخر أقسى بكثير من درس 7 أكتوبر.. إذا كان العدوُّ عاجزا عن السّيطرة على جيب صغير لمئات المقاومين في جنين التي لا تتجاوز مساحتُها 1.5 كيلومتر مربّع، ويفرّ جنودُه في كلّ مرة بعد ساعات قليلة من محاولات الاقتحام، فكيف يواجهُ 40 ألف مقاوِم في مساحة تصل إلى 362 كيلومترا مربَّعا؟
هذه الحقائقُ الدامغة ستدفع الاحتلالَ الجبان إلى تجنّب هذا السيناريو المُرعب والاكتفاء بمواصلة قصفِه الوحشي لمساكن غزّة وتدميرها على رؤوس سكّانها وقتل آلافٍ آخرين من الأطفال والنساء والمدنيين إلى أن يشفي غليله من هؤلاء الأبرياء، وبعد أسابيع سيعلن –كما حدث في حروب سابقة- الانتصار على المقاومة وأنّه وجّه لها ضرباتٍ غير مسبوقة وألحق بها خسائرَ فادحة ودمّر شبكة أنفاقها ولن تقوم لها قائمةٌ بعد الآن، ثم يوقف الحرب. ولكنّ الحقيقة أنّه سيعجز عن فعل شيء غير قصف الأبرياء وتدمير مساكنهم ردحا من الزمن، ثم يستنجد بحلفائه الغربيين والعرب لتوفير سلمٍّ له لينزل من أعلى الشجرة ويوقف خسائره البشرية والاقتصادية عند هذا الحدّ، وبعدها تكون هيبة الاحتلال قد سقطت نهائيًّا وقوّتُه الرّدعية قد أصيبت في مقتل.