غزّة التي تُلهبنا ثمّ تلهمنا /الاعلامي الجزائري / سلطان بركان

15 أكتوبر, 2023 - 01:46

طوفان الأقصى متواصل بإذن الله، والرباط في غزّة وحوالي المسجد الأقصى سيظلّ باقيا بوعد الله.. ورغم الجراح والآلام، إلا أنّ الكلام لا ينبغي أن يكون بحزن ووهن، إنّما بعزّة وفخر، كيف لا والله تعالى يقول: ((وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين)).. وهل يليق بنا أن نتكلّم بذلّة وخنوع وعندنا كتائب القسّام التي أذهلت جيوش العالم، وعندنا أبو عبيدة الذي ترعب خطاباته جنرالات الجيش الصهيونيّ، وتلهب حماس الأحرار في كلّ العالم؟
الكلام ينبغي أن يكون بعزّ وفخر، عن الملاحم التي يسطرها إخوة العقيدة والدين في قطاع العزّة غزّة، بجهادهم المستمرّ رغم القصف المتواصل، وبصبرهم وثباتهم واعتصامهم بمولاهم الذي لا مولى لهم سواه، بعد أن تخلّى عنهم القريب، وتداعى البعيد للتحالف ضدّهم. لسان حالهم الآن: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل)).. ونحن ننتظر أن يتحقّق فيهم -عاجلا أم آجلا- قوله سبحانه: ((فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم)).
غزّة الأبية المستعصية التي قال عنها رئيس الوزراء الصهيونيّ الأسبق “إسحاق رابين”: “أتمنى لو أستيقظ يومًا وأرى غزة وقد ابتلعها البحر”؛ غزّة هذه أمست غصّة ملتهبة في حلوق الصهاينة والصليبيين، وها هم يحشدون لها الحشود ويجمعون لها الجموع، ويفترون الفرى ويحبكون الأكاذيب ليشيطنوا جندها في كتائب القسّام.. ها هم يختلقون أخبارا مفبركة ينشرونها في العالم ليؤلّبوه على المجاهدين.. ولعلّ من أقبح أكاذيبهم زعمهم أنّ المجاهدين ذبحوا 40 طفلا صهيونيا، وهي الأكذوبة التي تبنّاها الرئيس الأمريكي في مؤتمره الصحفي، ليحاول تبرير إرهابه وإرهاب صهاينته ضدّ المدنيين في غزّة، تماما كما حاول سلفه جورج بوش قبله تبرير إرهابه ضدّ العراقيين بأكاذيب ودعاوى ظهر بعد ذلك زيفها.
المصيبة الأكبر ليست في تداعي أحزاب الشرّ لحرب فئة قليلة مؤمنة، إنّما هي في إصرار أكثر المسلمين على خذلان إخوانهم، والداهية الأكبر منها أن يوجد بين المسلمين من يبرّر الخنوع ويلبس الخذلان لباس الدّين! فتجد من يذكّر الأمّة -والمعركة قد حمي وطيسها- بأنّ للجهاد شروطا لم تتحقّق في أرض فلسطين، منها شرط إذن ولي الأمر وشرط إعداد العدّة الكافية!
شعب مسلم احتُلّت أرضه وانتهكت مقدّساته وسحلت حرائره، ينتظر إذن وليّ الأمر، أو ينتظر وجود العدّة الكافية؟ أيّ شرع هذا الذي ينطق به المرجفون؟ ألا يفرّقون بين جهاد الدّفع وجهاد الطّلب؟ كان الأولى بهم إذْ عجزوا عن نصرة المسلمين أن يسكتوا ويستروا عوراتهم، أمّا أن يُثبّطوا عن نصرة المظلومين، فهذا والله هو النفاق بعينه.
أحبار اليهود يستنفرون الجموع ويشحذون همم جنودهم المسكونين بالرعب، لأجل القتال المقدّس، بينما بعض علماء المسلمين وعامّتهم يردّدون ما كان المنافقون في عهد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يردّدونه! كان قائل المنافقين في غزوة الأحزاب يقول: “قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم، وقد حصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا”.. فما أشدّ محنة الأمّة في بعض علمائها الذين آثروا الفاني على الباقي، وسكتوا عن قول كلمة الحقّ، وكان منهم ما كان من علماء أهل الكتاب قبلهم: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون))!
أهل غزّة يعيدون إلى الأذهان حقيقةً طالما أريد لها أن تنطمس في زمن التفرّق والاختلاف وادّعاء كلّ طائفة أنّها صاحبة الحقّ وأنّها الناجية.. غزّة تذكّر الأمّة بأنّ المرابطين أهلَ الثّغور الذين يقارعون أعداء الأمّة ويدافعون عن حياضها، هم الميزان الذي يوزن به غيرهم، قال ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم، كما دلّ عليه قول الله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))؛ فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف النّاس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثّغر فإنّ الحقّ معهم لأنّ الله يقول: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))”.. إذا أردنا أن نعرف أهل الحقّ فلننظر إلى موقفهم من المرابطين في المسجد الأقصى وحوالي المسجد الأقصى، ولا ينبغي أن تغرنا التسميات والألقاب الفخمة.
هذه الأحداث ينبغي أن تعيد إلينا الثقة بديننا، واليقين بوعد مولانا القائل: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)).. هذا الوعد ماضٍ ومتحقّق لا محالة، لكنّ وقت تحقّقه غيب لا يعلمه إلا الله، وسيكون بعد أن يُمتحن المؤمنون ويزلزلوا لتتمايز الصّفوف، ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُم)) (محمد).
هذه الأحداث ينبغي أن تحملنا على العودة الجادّة والصّادقة إلى ديننا.. فليس يحلّ ولا يليق أن يموت إخواننا في قطاع غزّة دفاعا عن شرفنا وشرف أمّتنا، بينما نحن نلهو ونلعب ونصرّ على إضاعة صلواتنا والسّماح لزوجاتنا وبناتنا بالخروج كاسيات عاريات، وعلى إضاعة الأمانة وأكل الحرام، وعلى الخصومات على الأراضي والسّكنات وحظوظ الدنيا الفانية.. ليس يحلّ ولا يليق أن نصرّ على غفلتنا وبعدنا عن ديننا، وإخوانُنا في غزّة مُنعوا الماء وقطعت عنهم الكهرباء.. ليس يصحّ أن نبيت على أصوات الأغاني والألحان، وإخواننا في غزّة يبيتون على أصوات القنابل المدمّرة.
ينقل الداعية الجزائري الدكتور فتح الله دبوزة فحوى رسالة وردته من أحد الشّباب، فيقول: “قال لي أحد الشباب: كنت مبتلى بالنظر إلى النساء، حتى أني لا أكاد أكف بصري عن امرأة.. لكن منذ بداية المعركة في غزة، أصبحت أستحيي أن أرفع عيني إلى هذه السفاسف، في الوقت الذي يموت فيه الرجال في ميدان الشرف.. وإني لأخشى أن تُكتب للناس مشاركة في هذا الخير وأُحرمه بسبب هذه المعصية، فتركتها رجاء أن ينالني الخير”.
قصّة هذا الشابّ تذكّرنا بقصّة أبي محجن -رضي الله عنه- الذي ابتلي بشرب الخمر، وكان يجلد عليها من حين إلى آخر، فما استطاع الإقلاع عنها.. حتى كان العام 15هـ، أُتي به إلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قبيل معركة القادسية ضدّ الفرس وقد شرب الخمر، فأمر به سعد إلى الحبس، وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذٍ مع الناس.. فصعد على مرتفع ينظر ما يفعل جند الله بأعدائهم، فلما الْتَقى الناس، قال أبو محجن وهو يتلوّى حزنا أنّه لم يشارك في المعركة مع جند الله:
كفى حزَنًا أن تُطرَدَ الخيلُ بالقنا * وأُترَكَ مَشدودًا عليَّ وَثَاقِيَا
فقام فرأى ابنة خصفة زوجة سعد، فقال: أطلقيني ولك الله عليَّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، وإن قُتلت استرحتم مني، قال: فحلَّت قيده، فوثب وثبة الأسد على فرس لسعد يُقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحًا، ثم خرج، فجعل لا يَحمل على ناحية من العدو إلا هزَمَهم وسقطوا عن يمينه وشماله كالذّباب، وجعل الناس يقولون: هذا مَلَكٌ؛ لِما يرَونه يصنع، وجعل سعد يقول: “الضبح ضبح البلقاء، والطعن طعن أبي مِحجَن، وأبو محجن في القيد!”، فلما هُزم العدو، رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد، وأخبرت ابنة خصفة سعدًا بما كان من أمره، فقال سعد: “لا والله، لا أضرب بعد اليوم رجلاً أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم”، فخلى سبيله، فقال أبو محجن: “قد كنت أشرب الخمر إذ يقام عليَّ الحد وأُطَهَّر منها، فأما إذ بهرجتني، فلا والله لا أشربها أبدًا”.