الإرهاب خطر يهدد استقرار وبقاء الدول، فهو أينما حل، حل معه الخراب.. وفي منطقتنا شكل العنف المتجول، في نهاية الثمانينيات وبدايةتسعينيات القرن الماضي، أول بالون اختبار جدي من الجماعات الإرهابية لاختراق بعض البلدان العربية. ومنذ ذلك الحين بدأ الإهتمام بموضوع الإرهاب، يستأثر بخطط الحكومات العربية، خصوصا بعدما أدركت أن الإرهاب واقع لا مناص من مواجهته. ورغم اختلاف تجارب البلدان العربية في هذا الصدد، إلا أن تنامي ظاهرة الإرهاب واتساع رقعته، فرض عليها إعادة النظر في مقارباتها الأمنية والفكرية لمواجهة هذه الظاهرة المستعصية. و اليوم باتت المراهنة على التصدي الشامل للإرهاب، تعتمد مقاربات فكرية يلعب فيها العلماء والمفكرون دورا بارزا لايقل أهمية عن دور الأجهزة المتخصصة في مقارعته وتجفيف منابعه المالية واللوجستية. في حوار أجرته - وكالة بث - مع عضو المجلس الإسلامي الأعلى في موريتانيا والأمين العام لمنتدى الفكر الإسلامي وحوار الثقافات، المفكر الدكتورالشيخ الزين الإمام، أثرنا معه موضوع الساعة، و سألناه عن : نشأة وجذور فكر الغلو و التطرف، و السر وراء وجود حواضن له في بلداننا العربية و الإسلامية؟ .. وعن دور العلماء والمفكرين في مواجهة الإرهاب؟.. و عن تجربته شخصيا كعالم ومفكر في حوارات المناصحة التي شارك فيها مع سجناء القاعدة في موريتانيا في السنوات الأخيرة؟ فرد بقوله: ....... لقد سألتم عن عظيم و قبل الإجابة يجب تحديد مفهوم مصطلح التطرف، ولن أسهب في معناه اللغوي لأنه معروف ويعني بصفة موجزة الكون في حافة الشيء والابتعاد عن وسطه . ولكن الطرف إذا تعلق بالأفكار يكون إشكالا حقيقيا ولذلك يجب في البدء تحديد مفهوم الوسط , فما هو الوسط الذي يمكن التحاكم عليه ؟ أظن أن الوسط منضبط فيما يتعلق بالإسلام وهو ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، سواء تعلق ذلك بمستوى التدين أو في السلوكيات أو في الممارسات ؟ لقد جاء محمد صلى الله عليه بدين وسط لا غلو فيه ولا تفريط، وقد قال تعالي : “ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا “. ولقد قال علي رضي الله عنه “خير الناس هذا النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي “. والنمط الأوسط هو منهاج النبوة وفيصل التفرقة بين الاعتدال وطرفي الغلو والتسيب. غير أن نزعة الغلو أصيلة في الإنسان من حيث هو إنسان، ولذلك قال بعض أصحابه أنهم سيلزمون أنفسهم بتشريعات لم يلزمها لهم النبي الخاتم فقال بعضهم أصلي ولا أنام وقال بعضهم أصوم ولا أفطر وقال بعضهم لا أتزوج النساء فلما علم بهم نبي الله قال لهم : “ أما أنا فإني أصوم وافطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني”.. أو كما قال صلي الله عليه وسلم. إن نزعة الغلو تلك ظهرت كذلك عند ذي الخويصرة الذي اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم العدل في قسمة الغنائم، فقال له النبي صلي الله عليه ومن يعدل إذا لم اعدل ؟ قد خبت وخسرت . فقال عمر يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه ؟فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية والحديث في البخاري ومسلم . وإذا كان جيل القرن الأول وجد فيه متطرفون فكريا، فليس غريبا أن يوجد في القرن الواحد والعشرين متطرفون إن نزعة الغلو والتطرف قد تتجلى في سلوك المرء في خاصة نفسه، كما أنها قد تكون في حكمه على الآخرين.. و من ثم اتهامهم في دينهم. فالحال الأولى و هي إلزام المرء نفسه سلوكا لم يشرع، هي حال النفر الثلاثة , الذين رغبة منهم في القرب من الله ابتدعوا مسلكيات خاصة وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم ثم ما رعوها حق رعايتها، غير أنهم من حسن حظهم عادوا وتابوا ورجعوا إلى الطريق القويم وحسن إسلامهم ولو ظلوا على ما هم عليه لتنكبوا الجادة وشرعوا ما لم يأذن به الله فضلوا وأضلوا . أما الحال الثانية وهي اتهام الآخرين فهي حال ذي الخويصرة ذلك الجلف الذي لا يعرف من الدين إلا اسمه حديث الإسلام يتهم خاتم الأنبياء بالمحسوبية والزبونية بئس ما قال وبئس ما سولته له نفسه .. إن هاتين الحادثتين التارخيتين حادثة النفر الثلاثة وحادثة ذي الخويصرة هم سلف هؤلاء المتطرفين بلا شك وبئس ذاك السلف .. ومن ذلك السلف البائس كانت الخوارج وكل الفرق المتطرفة عبر التاريخ الاسلامي.. إن المتطرفة الجدد جمعوا بين منهج النفر الثلاثة ومنهج ذي الخويصرة ، فهم متطرفون في سلوكهم الخاص محتكرون للحق متهمون لغيرهم ظانون بهم ظن السوء .. السر في وجود حواضن للتطرف والارهاب فقد شاع في الأدبيات الفكرية في الآونة الأخيرة الربط بين ظاهرة الغلو والتطرف وبين ظاهرة الاستبداد، حتى ظن الكثيرون أنهما قضية متصلة كما يقول أهل علم المنطق بمعني أنه كلما وجد استبداد لا بد من وجود التطرف وبدأوا يبحثون في قضايا الديمقراطية كأنها الحل لهذا الإشكال.. والحقيقة أن القضية ليست بذاك، بل هي قضية إتفاقية بمعني أن ذلك الوجود اتفاقي فقد يوجد في بعض الأحيان استبداد وتطرف في وقت واحد كما أنه قد يوجد تطرف مع وجود عدل وشورى وديمقراطية وقد يوجد استبداد مع انعدام التطرف والغلو و كل تلك المصطلحات المصاحبة.. إن الإشكال في نظرنا فكري بالأساس ويعود بالقوة في هذه الأيام لانعدام جاذبية الكثير من الأفكار والرؤي التي كانت سائدة في العقود الماضية . هذا مع مستوى الجمود الحاصل في الفكر الإسلامي بالنظر إلى مستوى التحديات التي تواجهه .. هذا طبعا بالإضافة إلى قلة الزاد والبضاعة المزجاة من الدين والتقوى .. إن الاضطراب الحاصل في استعمال بعض المفاهيم الإسلامية و الفوضى في توظيف تلك المفاهيم أدى إلى ظهور الفكر الخارجي من جديد كما يقول العلامة الدكتور فريد الأنصاري عليه رحمة الله.. وإن ذلك الفكر الميال إلى التكفير وإلى التعميم غير المتبصر وإلى حمل المفاهيم حملا مخالفا لما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين .إن ذلك الفكر هو الذي أوقع الأمة فيما هي فيه من وحل وغيوم على مستوي الفكر والممارسة. ولا شك أن دور العلماء والمفكرين في مواجهة الإرهاب محوري على الأقل فيما يتعلق بالبعد الفكري تبيان الطريق القويم والمنهج الصحيح ولهذا فإنه من واجبهم القيام بحملات توعية فكرية في جميع المنابر والوسائط الحديثة . غير أنه يجب الإقرار بإشكال آخر، ذلك لأن بعض العلماء أو قل أنصاف العلماء هم من نظر لهذا الفكر و هم من نشره بين العامة .. من هنا يكون الإشكال مركبا فمن هو العالم الذي يجب الرجوع لقوله . فللمتطرفين علماؤهم الذين لا يرضون القول بقول غيرهم ، وقد يكون من الممكن عدهم على أصابع يد واحدة، ولكن لعدم الانقياد لمبدأ الإجماع أو قل للقول بانعدام العصمة عند أهل السنة جاء الخلل .. إن القول بعدم العصمة جعل أقوال العلماء متساوية، هذا مع القول بعدم انعقاد الإجماع لعدم توفر شروطه ..كل هذا عقد من الإشكال بل جعله معضلة ليس له أبو الحسن ونعوذ بالله من معضلة ليس لها أبا الحسن كما قال عمر رضي الله عنه. ومع كل ذلك فإنه من واجب العلماء الرد على شبه المتطرفة، ولقد كان لي الشرف بالمشاركة في تأليف كتاب تحت عنوان : - الأجوبة الشافية في الرد علي الشبه الواهية - ألفته نخبة من علماء موريتانيا على رأسهم العلامة حمدا ولد التاه حفظه الله، رئيس رابطة العلماء الموريتانيين . ناقشنا في ذلك الكتاب، شبه المتطرفين ودعاواهم شبهة شبهة ورددنا عليهم بالحجة والبرهان وبالنصوص وعمل السلف . وقد كان لذلك الكتاب أثره البالغ في الحوارات الفكرية التي وقعت بين السجناء السلفيين ونخبة من العلماء الموريتانيين والتي نتج عنها توبة الكثيرين ورجوعهم إلي الجادة.. وأعرف الكثيرين منهم أصبحوا يعيشون اليوم حياة عادية بين أهلهم وذويهم , وقد درست بعضهم في الجامعة بعد ذلك وهم الآن أئمة وتجارا وموظفين كغيرهم من أبناء وطنهم .