إن أهم عناصر قّوة الأمّة جودة تعليمها، ونزاهة قضائها، وحسن اختيار قادتها، ومحاربة الفساد على كلّ مستوياتها.)
قال لي صاحبي وهو يحاورني: كان لي صديق موظف يعمل في إحدى مؤسساتنا العمومية بداية الثمانيات ونهاية التسعينات، وأنه غاب عن تلك المؤسسة حينا من الدهر- لمواصلة الدراسة في الخارج، ولما عاد بعد فترة التكوين، فوجئ بوضعية جديدة ومدير جديد، عين على المؤسسة العمومية في فترة غيابه القصيرة، وأحدث هذا المسئول ثورة على مستوى الهياكل المركزية والجهوية للمؤسسة.
و عمد إلى تغيير كل المسئولين من: البواب إلى أعلى السلم الوظيفي، بمن هم أقل كفاءة وتجربة من المعزولين، الغريب في الأمر أن هذا المدير المعين حديثا على المؤسسة، والقادم من قطاع آخر، عرف في وقت قياسي من هم الموظفون الأسوأ في المؤسسة وعينهم مكان غيرهم من الأكفاء.
هذه الواقعة ذكرتني، بما قرأت سابقا من مذكرات كاتب من الاتحاد السوفيتي سابقا، أيام قوتها وجبروتها، حيث كانت هناك مصلحة عمومية، سوفيتية تنشط بطريقة أقلقت الولايات المتحدة الأمريكية فتربصت بها الدوائر، وفي مناسبة ما، وبطريقة محكمة وذكية، تمكن أحد الجواسيس الأمريكيين من الاقتراب من أحد موظفي المؤسسة السوفيتية، وقدم له طلبا بسيطا جدا مقابل مبالغ معتبرة من العملة الصعبة تتكفل مصالح السفارة الأمريكية بإيصالها له بصفة مباشرة بوسائلها الخاصة.
الطلب الأمريكي لا يتمثل في الحصول على معلومات إستراتيجية، ولا كشف عملاء الدولة السوفيتية، بل يسعى هذا المسؤول الحكومي، نظرا لعلاقاته بدوائر السلطة، إلى تعيين أسوء الإطارات على رأس مؤسسات الدولة الحيوية كلما سمحت له الفرصة.
وبعد فترة من الزمن فقدت مؤسسات الدولة السوفيتية العميقة، كل حيويتها، ونشاطها ومصداقيتها ونخر الفساد في جسمها وبدأت تفلس يوما بعد يوم ولم تكتشف قيادة المخابرات السوفيتية (كا جي بي)، علاقة المسؤول الحكومي بالمخابرات الأمريكية (السي – أي - إي) إلا بعد فترة طويلة وبمحض الصدفة، حيث لاحظ زملاؤه ومعارفه بأن مستواه المعيشي والاقتصادي تغير بشكل ملحوظ، وأنه يصرف الأموال بتبذير فادح؛ وثراء فاحش، مما جعلهم يضعونه تحت الرقابة ليكتشفوا تلقيه مبالغ مالية كبيرة من الولايات المتحدة الأمريكية، مقابل تدمير الدولة العميقة.
- هاتان الحادثتان تبينان كيف يمكن تدمير الدول دون للجوء إلىى الحروب، وبوسائل بسيطة جدا وبأقل التكاليف، يمكن تجميد مؤسسات حكومية، وتحويلها إلى معرقلة للتنمية والبناء، يكفي فقط وضع شخص غير كفء أو مرتش أو مصاب بعقد نفسية
الرجل المناسب في المكان غير المناسب؛ على رأس مؤسسات عمومية وتحييد الكفاءات العلمية الأكثر وطنية وإخلاصا، وتترك الإدارة للعاجزين والمتملقين والفاسدين.
فالمسؤول الموريتاني المعين على أساس الولاءات لا الكفاءات هو موظف تحت الطلب.. مما جعله لا يرغب في العمل مع الكفاءات التي وجدها في تلك المؤسسة فعمد إلى تغييرها بمن يقدمون له الولاء والطاعة والاستجابة، للرغبات الشخصية، لولي نعمتهم "المدير الجديد رئيس المرحلة، بدون مناقشة فالأوامر للتطبيق بدون نقاش (الأوامر العليا) بلغة (العسكر)، وهذه صفات أساسية، يجب أن يتسم بها أي موظف يسعى للتوظيف، والحصول على وظيفية وترقية
هذه السياسة، للأسف، بدأت تبرز في موريتانيا منذ الانقلاب العسكري 1978م على الشرعية المدنية، وراحت تنتشر كمنظومة أخلاقية لا يزيغ عنها إلا هالك (أو منفوش) لتشمل كل قطاعات الدولة، حيث أصبحت المناصب والمسؤوليات، تسند لمن يخدم أكثر ولمن يتحايل أكثر، على القانون، وأسندت الأمانة لغير أهلها، وأصبحت القاعدة السائدة "الوظيفة مقابل الولاء"
هذا الوضع الكارثي جعل كل الإطارات الموريتانية الوطنية النظيفة والنزيهة والمتمسكة بالنظم والقوانين تستقيل من الوظائف، مما جعلهم يوصفون في نظر موظفي (الخدمة والطاعة) بالأغبياء المتخلفين، فاتهم القطار، وما زالوا متمسكين بالمبادئ والوطنية، والاستقامة.
إنها أزمة بنيوية حقيقية، طالت معظم الكفاءات، في مسارات أخذت صورة حملات ممنهجة، ومخططا لها، كي تفرغ مؤسسات الجمهورية من الوطنيين المخلصين نظيفي اليد، الذين إن أتيح لهم أن يعملوا في العسل لرفضوا تذوقه تورعا، إطارات لم تمتد أيديهم لأوقية واحدة من أموال الدولة اليتيمة، فعاشوا الغربتين:
-غربة العمل في محيط معاد قاعدته (اللي تولى شي ظاكو)
- وغربة نظرات الشك من طرف أبنائهم وعشيرتهم الأقربين الذين لا يدركون حقيقة الفوارق المادية والمعيشية بين مستواهم المعيشي وموظفين أقل منهم كفاءة ومؤهلات، يعملون بنفس المؤسسة، ويصفونهم (بالمنفوشين).
إنه معيار توظيف موظفي "الخدمة" والطاعة والولاء، وصلاحية التعيين لمن تتوفر فيهم صفات الولاء المطلق، والطاعة لولي "النعمة" في دولة (المسؤول الأول) وصلاحية التعيين.
ولأن المخلصين لا مكان لهم في هذه المنظومة، وليسوا مهيئين للقيام بهذه الأعمال غير الإنسانية، وتجاوز القيم والأخلاق والقوانين والانبطاح حد الإهانة والخيانة لوطن يستحق علينا وعليهم الولاء لقيمه، والدفاع عن ثوابته، فلا وطن لنا سواه وان جار علينا وظلم ....
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وان ضنوا علي كرام
تولانا الله برحمته