قد يبدو أي حديث عن مشاكل الصحافة الخاصة "المستقلة" في بلدنا، "حديثا معادا"، خاصة إذا اهتم بتعداد مشاكل هذه الصحافة وأولوياتها، لكننا في الواقع ندرك جليا أنه "لا ديمقراطية بدون تنمية ولا تنمية بدون صحافة مستقلة"، لذلك لا بد من إصلاح قطاع الصحافة عموما والخاصة منها على وجه التحديد، لأنه بدون ضمان استقلالية الصحافة الخاصة، والإبقاء على ظاهرة التسول المذل، لا يمكن أن تؤدي دورها الإيجابي على الوجه الأمثل، كما لا يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي، لأن مصداقيتها تظل على المحك ما لم نضمن لها شرف الاستقلالية المالية والتحريرية عن الحكومات والمعارضات ورجال السياسة والمال والأعمال، فكل هؤلاء يدخلون ضمن دائرة اهتمام الصحافة المهنية التي هي مطالبة بتناول أدائهم وتقييمه تقييما مهنيا بما يتيح للرأي العام الحكم عليه ومحاكمته بشكل موضوعي انطلاقا من الصورة التي تقدمها الصحافة الملتزمة عن كل هؤلاء.
إن ابتذال الصحافة الخاصة وامتهانها وإذلالها يكمن بالأساس في العلاقة المادية المباشرة بين المؤسسة الصحفية والصحفيين من جهة والجهات التي تقدم فتات أموالها مقابل ضمان صمت الصحافة عن أدائها المعوج وفسادها البين، وهو ما لا يستقيم في كل ديمقراطيات العالم المتحضر والتي تعتبر الصحافة المستقلة فيها أهم دعائم الديمقراطية التعددية وركيزتها الأولى.
إن الصحافة مطالبة بالمهنية والموضوعية في الخبر والتعليق والتقرير والريبورتاج والتحقيق والاستقصاء وفي كل المواضيع التي تتناولها مما يهم الرأي العام الوطني، وفي المقابل فإن السلطات العمومية مطالبة بضمان الاستقلالية المالية والمعنوية للمؤسسات الصحفية والمنظمات الصحفية حتى تؤدي واجبها الوطني في التنوير والتوجيه دون أن تكون رهينة لمنة من مسؤول رسمي أو شخصية معارضة أو رجل أعمال أو سياسي نافذ، لذلك لا بد من سن قانون جديد يجرم تسليم المال للصحافة بشكل مباشر، وحصر ما تتلقاه من أموال في دعم عمومي غير مشروط من موارد الدولة يؤمن الاحتياجات الأساسية للمؤسسات والمنظمات الصحفية ويتم تحويله إلى حسابات المؤسسات والمنظمات الصحفية دون علاقة مباشرة بالجهات المعنية، فضلا عن مصادر التمويل التقليدية كالاشتراكات والإعلانات والعلاقات التجارية مع القطاعين العام و الخاص.
إن ضمان استقلالية الصحافة ماديا ومعنويا والقضاء على الظواهر الغريبة التي تشوه المشهد الإعلامي الوطني من زبونية ومحاباة وعلاقات شخصية، والتمكين للمهنيين، وفق القانون والمعايير الموضوعية، سيعني الإسهام الفعلي والمباشر في نهضة بلدنا، حيث ستركز الصحافة بوسائلها المادية والمعنوية الجديدة على أداء دورها المحوري في عملية التنمية الشاملة لا رقيب عليها سوى الضمير المهني وأخلاقيات وشرف المهنة، وبالتالي إحداث تغيير جذري في العلاقة بين الصحفي وصناع القرار ورجال السياسة والمال والأعمال حيث ستصبح الصحافة مصدر قلق دائم لدى كل الذين يفكرون في التلاعب بمصالح البلد وبموارد الشعب وبمستقبل الأمة.
وإذا أردنا بالفعل النهوض بهذا القطاع لتمكينه من أداء دوره المنوط به على الوجه الأمثل فإننا مطالبون بالآتي:
أ- إنشاء مجلس أعلى للصحافة يتكون من 10 أعضاء ممن لا تقل تجربتهم المهنية عن 15 سنة متواصلة، على الأقل، ويتم اختيارهم من مختلف أجيال الصحافة الخاصة وتعزيزهم بخبراء مستقلين (ثلاثة على الأقل)، على أن يكون من أولويات المجلس الأعلى للصحافة:
1- استقبال طلبات الترخيص للمؤسسات الصحفية والمنظمات الصحفية والبت فيها قبل إحالتها إلى الجهات المختصة التي تلتزم برأي المجلس في تلك الطلبات.
2- ضبط وتنظيم ومراقبة الحقل الصحفي ومعاقبة من يخلون بأخلاقيات المهنة، وفق الضوابط واللوائح المحددة في ميثاق وأخلاقيات شرف المهنة.
3- وضع معايير موضوعية وشفافة لقبول استقبال ملفات التراخيص.
4- يكون من اختصاص المجلس، في إطار عملية تنظيم وتنقية الحقل، مصادرة تراخيص المنظمات والمؤسسات الصحفية التي لم تعد ناشطة أو التي لا تتوفر فيها المعايير المطلوبة، وذلك بعد ثلاثة أشهر من إخطار المؤسسة أو المنظمة بأن المجلس سيقرر حلها ومصادرة ترخيصها ما لم تلتزم بالمعايير المحددة في أجل أقصاه ثلاثة أشهر (المقر، ووثائق المؤسسية، حد أدنى من الأعضاء بالنسبة للمنظمات، وعدد محدد من النشاطات السنوية، و التحيين وحد أدنى من الصدور بالنسبة للصحف والمواقع الإخبارية الالكترونية .... إلخ). على أن تتم مصادرة كل التراخيص التي لم تعمل منذ سنتين، ويصبح قرار المجلس ملزما للجهات المختصة.
5- تسيير موارد صندوق الدعم العمومي للصحافة الخاصة وتوزيعها
6- المساهمة في تشكيلة وتسيير صندوق ترقية الإشهار والإعلام من خلال وجود ممثلين (اثنين) على الأقل عن المجلس، والمشاركة في وضع التصورات والخطط التي تضمن حقوق المؤسسات الصحفية المادية والمعنوية في نتائج عمل الصندوق.
7- إصدار ومنح البطاقة الصحفية مع ما تضمنه من امتيازات في مجالات تخفيض النقل والإقامة الفندقية وتسهيل الولوج لمصادر الأخبار وغيرها.
ب- فتح مصادر الأخبار أمام الصحافة الخاصة من خلال:
- تعيين مكلف بالإعلام في كل قطاع عمومي من مهامه تزويد الصحافة بالأخبار الصحيحة والوثائق الضرورية للمصداقية.
- تنظيم نقاط ومؤتمرات صحفية فصلية في كل قطاع عمومي من شأنها تسليط الضوء على أداء القطاعات العمومية والإجابة على مختلف الأسئلة حول نشاطات القطاع.
ج- إعادة تأهيل المطبعة الوطنية وتزويدها بعدد كاف من ماكينات السحب الرقمية الملونة، وتقديم دعم مالي سنوي (10.000.000 أوقية جديدة) لهذه المؤسسة لدعم سحب الصحف المستقلة بأسعار رمزية مع إلزامية تلوينها وزيادة صفحاتها إلى حدود 12 و 16 صفحة حسب اختيار الناشرين.
د- حماية الصحفيين أثناء تأدية مهامهم ومعاقبة كل من يتعرض لهم مهما كان موقعه، وذلك وفق قوانين الجمهورية.
لقد تعاملت الأنظمة المتعاقبة على البلاد مع الصحافة (المستقلة) باعتبارها ديكورا يزين ديمقراطياتها العرجاء، ولذلك عمدت إلى تقريب من كان يخدم سياساتها وأقصت المهنيين الذين تعاملوا مع القضايا الوطنية بمنتهى الوفاء للوطن وللأمة ولمبادئ المهنة وأخلاقياتها.
ولأننا واثقون من أننا ندخل اليوم مرحلة جديدة تماما، قوامها الإصلاح وبناء الجمهورية، فإن هذه المطالب تشكل أولوية تنموية لا يمكن تجاهلها وإنما الاستئناس بها على الأقل لانتشال ديمقراطيتنا وتنميتنا الشاملة من معوقاتها المميتة والنهوض بالبلد إلى مصاف الأمم الراقية التي تعتمد القانون والمؤسسات.
أحمد ولد مولاي امحمد/ إعلامي وكاتب صحفي