رحل الفرنسيون عن موريتانيا، لكنهم خلفوا وراءهم مشكلات تدور بسببها رحى صراع تاريخي في ولاية "العصابة" شرق موريتانيا، في واحدة من أكثر القضايا تشابكاً مع السياسة والنفوذ والمال.
تشهد مدينة "كيفة" (600 كيلومتر شرق نواكشوط) وما حولها من أراض منافسات محمومة بين القبائل. فمن سفح الجبل شرقا إلى الربوة السفلى عند المنحدر الجنوبي الغربي أملاك قبيلة العامريين، ومن المصب الجبلي الأوسط إلى الكثيب الأبيض ملك لعشيرة اليزيديين، وابتداء من هضبة العقيلات شرقا إلى نجوع وادي أبناء أعمر غربا اقطاع دائم لبني يعقوب، ومن هذه النقطة إلى قلب "أفرنان" يدرج كله في حيز مراعي أولاد عثمان.
بهذه المنح المستندة إلى معالم غير واضحة وحدود متغيرة، قسَّم المستعمر الفرنسي الأراضي الفضاء بين قبائل موريتانيا ليخلف وراءه ألغاما تنفجر من حين لآخر، وتهدد السلم العشائري، وتشغل السلطات والمحاكم في مختلف ولايات البلاد.
وأمام مبنى ولاية العصابة يتجمهر وجهاء العشائر لعرض مشاكلهم العقارية والتعديات التي تطال أراضيهم من قبائل أخرى.
وتستدعي هذه النزاعات النعرات العصبية والحساسيات التاريخية، وقد يسطرها الشعراء ويمتد أثرها أحياناً إلى حمل السلاح، ما يخلف قتلى وجرحى يسقطون دفاعاً عما يعتبرونه "حِمَى" لمضارب العشيرة وذودا عن أمجاد الأجداد.
القبيلة.. سلطة وإقليم
معظم أحاديث المتجمهرين أمام مبنى الولاية تتعلق بالنزاعات العقارية ذات الطابع القبلي حيث يفد الوجهاء للدفاع عن "الحوزة الترابية" لعشائرهم حتى لا ينتجع في حِماها غريب أو يحفر فيها بئرا.
وبالرغم من إقبال المواطنين على المؤسسسات العمومية لعرض مشاكلهم، فإن النزاعات العقارية لا تكاد تجد حلا من قبل السلطات وذلك نظرا لحساسية الكيان المجتمعي الذي يتألف من قبائل ترى أن المعاني والأحساب تترتب على قدر ما تملكه من الأراضي الجرداء.
وأمام تعقيد هذا المشهد باتت السلطات تميل إلى فصل الخصومات العقارية عن طريق الود والتصالح الذي يقوم عليه أعيان المجتمع وشيوخ القبائل.
غموض القانون
وتعليقاً على اختلالات القانون العقاري وغموضه، يقول المحامي الشيخ أحمد ولد الإمام إن المستعمر هو أول من قسم الأراضي الموريتانية بين القبائل وذلك لسببين، أولهما أمني من أجل أن تكون كل قبيلة في موقع واحد يمكن الرجوع إليه إذا ما خرجت على قانون وسيطرة الفرنسيين، بينما الثاني "جبائي" حيث أراد المستعمر أن تتواجد العشيرة في منطقة معينة محددة لتسهيل فرض الإتاوات والضرائب.
ويقول ولد الإمام إن من أشهر القوانين العقارية في موريتانيا قانون صدر عام 1960 ، وكان يقر صراحة بالملكية الجماعية وبأن الحيازة البسيطة تثبت الملكية.
أما الثاني فهو قانون عام 1983 وكان يهدف لإلغاء هيمنة القبيلة على الأراضي الزراعية من أجل أن تمكن الاستفادة منها، مما يعني الشراكة بين الفلاحين والملاك التقليديين، على حد تفسيره.
ويضيف ولد الإمام أن أكثر المشاكل والملفات المطروحة على مكاتب المحاماة تتعلق بالعقارات، وذلك لأن قانون 1983 ألغى الملكية الجماعية وهذا ما عجزت السلطات عن فرضه وتطبيقه.
ونظرا للفجوة بين النص وتطبيقاته باتت سطوة القبيلة تكرس قانون المستعمر الملغي وتفرض على الدولة احترام الملكية الجماعية.
ويشير المحامي إلى إنه في الأيام الماضية كانت هنالك مشكلة عقارية بين شركة تابعة للدولة وقبيلة نافذة في ولاية "العصابة"، بالشرق الموريتاني، وقد حسمت لصالح القبيلة.
وتعود القضية إلى أن الشركة المذكورة بدأت العمل في أرض جرداء، وأعلنتها الدولة ذات نفع عام إلا أن إحدى القبائل القوية لم ترض بذلك ما جعل السلطات تضطر للرجوع عن قرارها، وتقبل بتأجير الأرض من القبيلة.
وينبه المحامي إلى أن أهمية العقار ازدادت في السنوات الماضية في موريتانيا بسبب انتشار محميات الكلأ والآبار ذات النفع الرعوي، إلى جانب زحف القبائل نحو ضواحي المدن.
الحضور السياسي للقبائل
تعدّ موريتانيا من أهم الدول التي تحظى فيها القبيلة بحضور قوي في السياسة والسلطة وحتى في الاقتصاد.
وبعد تبني النظام الديومقراطي عام 1991 ركزت الدولة على تكريس القبلية ودعمها، حيث أصبحت العشيرة فاعلا أساسيا في السياسة، ويحسب عليها موقفها في المعارضة والموالاة، ويرتبط تقدم أبنائها في الوظائف بقوتها والرهبة منها أو الرغبة فيها.
وقد حاولت الدولة منذ ذلك الحين أن تتمركز كل قبيلة في حيز إقليمي يخصها تتعايش فيه من جهة، ويعرف من خلاله انتماؤها السياسي من جهة أخرى.
ومن ذلك المنطلق ازدادت هيمنة القبائل على الأراضي وأصبحت النزاعات العقارية في الغالب بين مجموعات القبيلة الواحدة، ما يجعل الحلول المجتمعية هي السبيل الأنجع لحلها.
سيد إبراهيم ولد آجاط وجيه قبلي وعمدة مساعد في مدينة بلدية كرو ( 500 كيلو متر شرق العاصمة نواكشوط) أرجع كثرة المشاكل العقارية لنزوع القبائل إلى الهيمنة على مساحات شاسعة من الأرض وعدم وضوح الحدود التي رسمها المستعمر بين المجتمعات الإقطاعية.
ويقول آجاط إن عدم وضوح ما يسمى بـ "الطبعات الفرنسية " (رخص الأرض التقليدية) يؤجج الشحناء بين المجموعات القبلية وقد يدفع أحيانا للاقتتال.
لكنه نبه إلى أن الحلول دائماً تأتي من خلال بذل مساع حميدة بين المتنازعين، أو تنازل أحد الحكماء عن أرض لصالح أحد طرفي الخصام، لتهدئة الوضع والحيلولة دون التصعيد بين العشائر والبطون.
أما الوجيه عبد الله ولد إنجيه، فقال لـ "ألعربي الجديد" إنه حضر خلال شهر مارس آذار المنصرم ثلاثة اجتماعات قبلية، كلها في موضوع عقاري لا صلة له بها سوى أنه يسعى لإصلاح ذات البين وإخماد الفتنة بين المواطنين.
ويقول إنجيه إن المشاكل العقارية تعصف بالأمن القبلي، ففي الشهرين الماضيين كانت هنالك مشكلة استخدم فيها السلاح، وتبادل الأطراف إطلاق الرصاص في أرض لا تنبت ولا مرعى فيها، حسب تعبيره.
ويشدد الوجيه على أن تقوم الدولة بمسؤولياتها وبسط سلطانها على الأرض، وتوزيعها بين المواطنين بشكل عادل مراعاة لحاجاتهم، بعيدا عن ميلهم لحب التملك وتمسكهم بمخلفات الاقطاع.
الضعفاء.. ضحية النفوذ
وفي ظل تفشي هذه الفوضى العقارية يبقى السكان الضعفاء محل تهميش، حيث تتم مضايقتهم من حين لآخر، بينما الأراضي الشاسعة تمنح لنافذين عشائريين يتصرفون فيها حيث شاءوا ويتخذونها مصدر ثراء.
مريم بنت أحمد، مواطنة موريتانية تقطن بضواحي مدينة "كرو" ، تقول إنها فوجئت منذ أربعة أشهر بتسلط أحد النافذين القبليين عليها، مدعيا أن الأرض التي تسكنها ملكه، وأنه ورثها من اجداده ويريد ترحيلها منها، حسب زعمها.
وتؤكد أنها كانت أول من سكن الأرض، وشيدت فيها منزلا متواضعا وهي أحق بها، لكن ضعفها وقلة حيلتها لم يشفعا لها وباتت تتردد على المحاكم بحثا عن الإنصاف، وبحسب بنت أحمد فإن خصمها يدعي تملك مساحات شاسعة ويبسط نفوذه على أراضي الدولة، باذلاً في سبيل ذلك ما يملكه من جاه ومال.
مثل مريم ، يعاني كثير من المواطنين، من غير المنتمين لقبائل كبيرة، من عدم قدرتهم على حماية أراضيهم، رغم أن الدولة أصدرت قانونا سنة 2010 يحد من صلاحيات الإدارة المحلية في منح الأراضي واستحدثت وزارة لهذا الغرض، فإن القبيلة ما زالت تفرض كلمتها على السلطة، وخصوصا، في القرى والأرياف حيث تحتد شوكة العشائر ويتقلص نفوذ السلطة الحكومية.
نقلا عن " العربي الجديد"