موريتانيا.. تركة الاستعمار اللغوية

15 أغسطس, 2020 - 12:47

في الماضي القريب، كانت المؤسسات التعليمية التقليدية في موريتانيا، التي تُسمّى "المحاظر"، مصدر قوة للغة العربية، وتتصدّى للتعليم الفرنسي الذي بشّرت به إدارة الاحتلال آنذاك بهدف تمكين اللغة والثقافة الفرنسيتين.

لاحقاً، جاء الاستقلال، وأبقى على المدارس ومناهجها لفترة طويلة قبل أن تتّجه الأنظمة العسكرية المتعاقبة إلى تقسيم المنهج إلى قسمين، عربي وفرنسي؛ يكون لكلّ شخص الخيار في أحدهما.

هذا الوضع التعليمي القديم ألقى بظلاله على المشهد الموريتاني الثقافي في ما بعد، بل تجاوزه إلى طرح أسئلة الهوية والانتماء المجتمعي، فكل مصادر الثقافة القديمة كانت عربية اللسان والفكر، لكن المتعلّمين بلغة المحتل سعوا إلى ترسيمها وجعلها لغة البلاد. هكذا، نشأت حركتان؛ واحدة عربية، تسعى إلى المحافظة على لغتها الأم بحيث تكون لغة للبلاد، وأخرى زنجية تتغزّل بالثقافة واللغة الفرنسيتين.

" المدارس الموريتانية منقسمة بين العربية والفرنسية "

اتّخذت المسألة جانباً عرقياً؛ حيث اعتبر الزنوج أن اللغة الفرنسية هي التي تصلح لتكون لغةً لبلادهم، فيما اتّخذ العرب منحى معاكساً في توطيد وتجذير العربية كلغة رسمية.

في هذا السياق، يقول الأكاديمي والأستاذ الجامعي أحمد حبيب الله، في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، إن الغريب في القضية هو الدور التاريخي الكبير للقبائل الزنجية في نشر العربية والحفاظ عليها، مشيراً إلى أن "مدرسة الفلاح" التي تأسست عام 1945، كانت "إحدى أهم قلاع اللغة العربية جنوب البلاد، ويرأسها الحاج محمود با، أحد شيوخ قبيلة الفلان الزنجية ذات الأصول العربية".

من المعروف أن "مدرسة الفلاح" عرضت مسرحية باللغة العربية يُوَجَّه موضوعها للصلح بين أسرتين من الزنوج، يوضّح حبيب الله، ويضيف "يدلّ هذا على أن العربية كانت سائدة قبيل فرض الفرنسيين مدارسهم ولغتهم ومحاربتهم للتعليم الأصلي؛ حيث كانت "المحاظر" تدرّس علوم اللغة العربية وعلوم الدين والشرع".

من جهة أخرى، تطارد البطالة عدداً كبيراً من الشبّان الموريتانيين الذين يحملون شهادات بالتخصّصات العربية؛ لأن الإدارة والدوائر الحكومية لا تستقبل إلا من يتحصّل على خبرة ممتازة باللغة الفرنسية؛ الأمر الذي دفع العديد من الموريتانيين إلى تعليم أبنائهم بالفرنسية؛ ما ساهم في نشأة أجيال من العرب في السبعينيات والثمانينيات وبداية التسعينيات درجوا على استخدام الفرنسية وانخرطوا في الدفاع عنها وعن الثقافة الغربية المحمّلة بها.

يوضّح الباحث في اللغة العربية في "جامعة نواكشوط"، محمد فال الشيخ، أسباب هذا الشرخ بالقول: "وجود مدارس ابتدائية وثانوية خاصة بالزنوج والفرانكفونيين المتطرفين، إضافة إلى اهتمام الزنوج بالدراسة باللغة الفرنسية واتّباع ثقافتها؛ جعلهم أكثر تبعية للغرب وذوي فكر مختلف عن فكر العرب وثقافتهم".

" تطارد البطالة من يحملون شهادات بالتخصّصات العربية "

ويؤكد أنّ "مناهج التعليم منذ الثمانينيات سمحت بوجود خيارين من التعليم؛ فكان العرب يدرسون بالعربية ويتخصّصون في مجالات أدبها ولغتها في الجامعة، بينما يفعل الزنوج العكس؛ ما دفع إلى وجود شرخ بين من يعتبر موريتانيا عربية الهوية والثقافة، ومن يردّها إلى أصلها الأفريقي وثقافتها الفرنسية".

يُمكننا تلمّس هذا الشرخ بشكل أوضح في "جامعة نواكشوط"؛ إذ تبدو نموذجاً مصغّراً وحيّاً لذلك الصّراع. ففي عام 2012، وقعت صدامات عرقية خطيرة بين الطلبة العرب والزنوج أثناء انتخابات طلابية، مهّد لذلك لانزواء الطلبة الزنوج في اتحاد طلابي يمنع على غير الزنوج الانتساب له. أما العرب، إضافة إلى قلة من الزنوج، فكانوا ينخرطون في اتحادات طلابية مختلفة ذات توجّهات فكرية ومشارب مختلفة، منها الإسلامي والقومي واليساري والليبرالي.

يُرجع كثير من الباحثين إرهاصات هذا الانقسام - القديم المتجدّد - في الساحة الطلابية، إلى نشاط نقابة المعلمين الزنوج مطلع الستينيات، الذي أدّى إلى نشوء حركة "أفلام" الزنجية نهاية الثمانينيات، التي، بدورها، أصدرت بيانات، تطالب فيها بالمزيد من الامتيازات لصالح الزنوج في موريتانيا، بل وتخطّت ذلك إلى المطالبة بوطن مستقل لهم في القسم الجنوبي للبلاد، بمحاذاة نهر السنغال.

من جانب آخر، وصل خطاب حركة "إيرا" المطالِبة بإنهاء آثار الرق والعبودية في موريتانيا، إلى القول إن طبقة "الحراطين" أو "العبيد" السابقين زنوج وليسوا عرباً، رغم أنهم يتحدّثون العربية ويمتلكون المميزات الثقافية نفسها التي تَسِمُ عرب موريتانيا.

لكن، من جهةٍ أخرى، فإن أحد أبرز رموز "التيار القومي الناصري" في موريتانيا، مسعود ولد بلخير، ينتمي إلى شريحة "الحراطين" ويعتبرهم مواطنين عرباً

نقلا عن " العربي الجديد"