في طريقها إلى العمل أخذت خديجة هاتفها المحمول واتصلت بـ"باب", وطلبت منه شراء شاة وشواءها وتوصيلها إلى المنزل. حددت المواصفات المطلوبة في الشاة، وما تريد شواءه من لحمها. لم تستغرق المحادثة وقتا كثيرا، لكنها كانت كافية لتطمئن خديجة على غداء ضيوفها المميزين في ذلك اليوم.
"باب" الذي تعوّد على استقبال مكالمات عديدة يوميا على هذا النحو، تعامل مع الموضوع بهدوء، تجوّل في سوق الماشية القريب من محله، واختار الشاة وفق المواصفات. ولأنه تلقى أكثر من اتصال استدعى بعض معاونيه وبدأ العمل، وفي الوقت المحدد حمل إلى كل زبون طلبه.
"الشواء عن بعد" -كما يسميه ممتهنوه- ظاهرة بدأت تنتشر في نواكشوط، وباتت جزءا من الخدمات التي لا غنى عنها لمجتمع يرتبط إكرام الضيف عنده بتقديم الذبائح، ويستعمل اللحوم في الأفراح والأتراح.
إتقان وثقة
"باب" رجل خمسيني خبر هذه المهنة منذ قرابة عقدين من الزمن، زبائنه من الميسورين ومتوسطي الحال، يتعامل معهم بثقة مطلقة كما يقول، ينفذ طلباتهم وفق قواعد تقوم على ثنائية احترام رغبات الزبون، وإتقان العمل.
يتعاطى "باب" مع مهنته بفنية وحرفية، كانت عيناه تتابعان مختلف مراحل نضج الشواء حين تحدث إلى الجزيرة نت.
بين حين وآخر, يقلب "باب" اللحم ويتفحصه بنظراته المركزة، وأحيانا يتحسسه ببنانه، دخان الشواء ولهيب الجمر باتا جزءا من تفاصيل حياته اليومية، يتعرق جبينه فلا يضجر، ويمتلئ المكان من حوله بالدخان فلا تتغير أسارير وجهه.
"الشواء عن بعد" خدمة تجد فيها الأسر الموريتانية كسبا للوقت، واقتصادا للمال، وتجنبا لبعض الإكراهات الاجتماعية، ويجد فيها ممتهنوها دخلا ماديا مقبولا، وتضمن لهم التعامل مع أكثر من زبون في وقت واحد.
وتعتبر خديجة أن "أهم ما في هذه الخدمة أنها تمكنك من إكرام الضيف دون أن يتعطل عملك أو تتعب، فبدل الذهاب إلى سوق الماشية والدخول في مماحكات مع الباعة وقتا طويلا، لم يعد الأمر يتطلب أكثر من مكالمة لا تستغرق دقيقتين".
وتضيف في حديث للجزيرة نت أن "للخدمة بعدا اقتصاديا واضحا، فهي تجنبك استهلاك الوقود في التنقل، وتقدم لك بنصف المبلغ الذي كانت ستقدّم لك به إذا ما اصطحبت العامل إلى البيت".
مبررات اقتصادية
ويؤكد "باب" ذلك قائلا إنهم يقدمون الخدمة في أماكنهم بنحو عشرة دولارات، وحين يُطلب منهم الانتقال إلى مكان آخر يصبح سعر الخدمة قرابة 15 دولارا.
ويقول في حديثه للجزيرة نت إن "بقاءنا هنا يسمح لنا بالتعامل مع أكثر من زبون في نفس الوقت، كما أننا نتوفر على أماكن مناسبة للعمل، أما إذا انتقلنا فإن ذلك يعني أننا سنقدم الخدمة لشخص واحد، وتضيع فرص التعامل مع زبائن آخرين، لذلك لا بد أن يتضاعف ثمن الخدمة".
ويرى الصحفي المتابع للشأن الاقتصادي الموريتاني ورئيس تحرير صحيفة الشعب الرسمية صالح ولد المامي أن شيوع هذه الخدمة وانتشارها له مبررات اقتصادية واضحة.
ويقول ولد المامي في حديث للجزيرة نت إنها "جاءت لتلبي حاجة سكان كبريات المدن وخاصة نواكشوط إلى المواءمة بين إكراهات العمل لكسب لقمة العيش، وضغوط الالتزامات الاجتماعية".
ويضيف أنه "إذا كان الانشغال بهموم الحياة الاقتصادية أثر على الوفاء بنوع من الالتزامات الاجتماعية، فإن إكرام الضيف ومجاملة الأصدقاء في بعض المناسبات ما زال مطلوبا اجتماعيا، ومن ثم كان لا بد من طريقة تضمن تلك المواءمة، وربما نجحت هذه الخدمة في ذلك".
المصدر : الجزيرة